نسمع جميعا عن لورانس العرب، وبعضنا يعرف دوره فى المنطقة العربية فى النصف الأول من القرن العشرين، لكن تعالوا معا نقرأ جانبا من كتاب "مغامرات مع لورانس فى جزيرة العرب" لـ لويل توماس، والكتاب صدرت ترجمته عن سلسلة (رواد المشرق العربى) التابع لمشروع "كلمة"، ويحتوى مقدمة وثلاثة وثلاثين فصلا يروى الكاتب كيفية التقاء "لويل توماس" بـ "لورانس" فى القدس، بعدما سمع عنه الكثير من الأقوال التى غدت بمثابة الأساطير، فقرر أن يرافقه فى الكثير من حملاته لنسف القطارات وقتال الجيش التركى فى شمال جزيرة العرب وجنوبى سوريا.
يقول الكتاب تحت عنوان "فارس عربى معاصر"
ذات يوم، بعد أن احتل اللورد آلنبى القدس، حدث أن تواجدت أمام أحد أكشاك البيع فى الحى المسيحى، أعترض على محاولة بائع تركى بدين مسنّ بأن يستخلص منى عشرين قرشاً لقاء حفنة من التّمر، وفجأة لفت انتباهى جماعة من العرب البدو يتجهون نحو بوابة دمشق، لم تكن حقيقة أنهم من البدو هى التى جعلتنى أتخلى عن جدالى بسبب الثّمن المرتفع للتّمر، إذ أن فلسطين، كما يعرف الجميع، يزيد فيها عدد السّكان العرب كثيراً عن اليهود، لكن الذى أثار فضولى هو منظر بدوى واحد يبرز بشكل أنيق من بين كل رفقائه، كان يرتدى عقالاً وكوفيّة وعباءة، وهو اللّباس الذى يرتديه ملوك الشّرق الأدنى، أمّا فى حزامه فقد وضع الخنجر القصير المعقوف الذى يتقلّده أمراء مكّة، وهى علامة تميّز أحفاد النّبى عليه السّلام.
إن الحى المسيحى هو أحد أبهى الشوارع فى الشرق الأدنى، وأكثرها تنوعاً، ففيه ترى اليهود الروس بجدائلهم المفتولة، والكهنة اليونان بقبعاتهم السوداء العالية وأثوابهم الفضفاضة، وبدو الصحراء الأشداء بمعاطفهم المصنوعة من جلد الماعز التى تذكرنا بأيام النبى إبراهيم، والأتراك فى سراويلهم التى تشبه البالونات، والتجار العرب الذين يضفون لمسة زاهية بعمائمهم وأرديتهم الملونة، تراهم كلهم يتزاحمون فى ذلك الزّقاق الضّيق الذى يغص بالدكاكين والمحلات والمقاهى، والذى يؤدى إلى كنيسة القيامة المقدسة.
ليست القدس بوتقة تنصهر فيها هذه العناصر المختلفة، إنها مكان التقاء الشرق بالغرب، هنا تبرز التنوعات العرقية المسيحية واليهودية والإسلامية، وكأن شمس الصحراء قد رسمتها بالأبيض والأسود. ولا يلفت الرجل الغريب الانتباه فى تلك المدينة المقدسة إلا إذا كان يملك صفات استثنائية جداً، ولكن عندما مر ذلك البدوى الشّاب بأثوابه الملكية، التفتت الحشود الواقفة أمام الدّكاكين لتنظر إليه.
لم يكن لباسه أو وقار قامته التى تقارب خمسة أقدام وثلاث بوصات هو فقط ما يميّزه ليبدو كملك أو خليفة متخف قد خرج لتوّه من صفحات ألف ليلة وليلة، كان الأمر المثير للدّهشة أنّ هذا الأمير المكى الغامض لم يكن يشبه أبناء إسماعيل إلا كما يشبه الحبشى واحداً من إسكيمو ستيفانسون Stefansson ذوى الشّعر الأحمر، والبدو، بالرّغم من أصلهم القوقازي، تحرق شمس الصّحراء القاسية جلودهم حتى تصبح بشرتهم بلون الحمم البركانية، لكن هذا الشّاب كان أشقر كأنه اسكندنافى تجرى فى أوردته الدّماء الاسكندنافية وتقاليد الفيوردات والأساطير.
يحتفظ البدو من أبناء إسماعيل بلحى طويلة كما كان أجدادهم يفعلون منذ عهد آدم. أمّا هذا الشّاب ذو الخنجر الذهبى المعقوف فقد كان حليق الذّقن تماماً، كان يسير بخطى سريعة ويداه معقودتان على صدره، وعيناه الزّرقاوان ظاهرتان وسط ما يحيط به، وبدا غارقاً فى تأمّل عميق.
كان أول ما خطر ببالى عندما نظرت إلى وجهه أنه أحد الحواريين الشّباب قد عاد إلى الحياة، كانت ملامحه هادئة مطمئنة كأنه قدّيس، التفت بلهفة إلى بائع التّمر التّركى، الذى كان يفقه بعض العبارات الإنجليزية ويستخدمها فى مناوراته مع السّياح، وسألته: "من هذا؟" فما كان منه إلا أن اكتفى بهزّ كتفيه.
كنت واثقاً من أننى أستطيع الحصول على معلومات وافية عنه من الجنرال ستورز، حاكم المدينة المقدَّسة، فتوجَّهت نحو قصره الواقع خلف الجدار القديم بالقرب من مقالع سليمان، كان الجنرال رونالد ستورز، الخليفة البريطانى لبونتيوس بيلاطوس، سكرتيراً شرقياً للمندوب السامى البريطانى فى مصر قبل سقوط القدس، وبقى عدة سنين على اتصال وثيق بالشعب الفلسطينى. كان يتكلم العبرية واليونانية واللاتينية والعربيّة بالطلاقة نفسها التى يتكلم بها الإنجليزية. وكنت على يقين أنه سيخبرنى بشىء ما عن ذلك البدوى الأشقر الغامض.
سألت الجنرال "من هو ذلك الشّخص أزرق العينين أشقر الشّعر الذى رأيته اليوم يتجول فى الأسواق متقلداً الخنجر المعقوف الذى يتقلده عادة أمير من.....؟ "
لم يدعنى الجنرال أكمل سؤالى بل فتح باب غرفة مجاورة بهدوء. هناك، وإلى الطّاولة ذاتها التى كان فون فولكنهايم يجلس إليها عندما نفّذ خطته الفاشلة لهزيمة اللورد آلِنْبي، كان الأمير البدوى جالساً وهو مستغرق تماما بالنّظر إلى مجلد ضخم عن علم الآثار.
قام الجنرال ستورز بالتعريف بقوله: "أعرّفك بالكولونيل لورَنس ملك العرب غير المتوَّج".
صافحنى الرّجل وقد ظهر عليه الخجل وشىء من التحفظ، وكأن ذهنه كان مشغولاً بالكنوز الدّفينة وليس بشؤون العالم الحالى للحملات والحروب، هكذا تعرّفت إلى شخصية من الشّخصيات الفذّة فى عالمنا المعاصر، شخصية سيذيع صيتها على صفحات التّاريخ الخيالية جنباً إلى جنب مع رالى ودرايك وكلايف وجوردون.
سمعت عن هذا الرجل الغامض عدة مرات خلال الشّهور التى قضيتها فى فلسطين مع اللورد آلِنْبى،. كانت أول إشاعة سمعتها عنه هى أثناء توجهى من إيطاليا إلى مصر. أسرّ إلى ضابط بحرية أسترالى بأن رجلاً إنجليزياً يقود جيشاً من البدو البدائيين فى الصّحراء غير المطروقة، هناك بعيداً فى أراضى عمر وأبى بكر، وعندما وصلت مصر سمعت روايات رائعة عن أعماله البطولية، كان النّاس يذكرون اسمه بصوت خفيض، وذلك لأن كل أخبار المعارك الحربية فى أرض ألف ليلة وليلة كانت تُكتم عن النّاس كتماناً تاماً.
حتى ذلك اليوم الذى التقيتُ فيه بلورَنس فى قصر حاكم القدس، لم يكن بمقدورى أن أتخيله كشخص حقيقى، لم يكن بالنّسبة لى سوى أسطورة شرقية جديدة، والواقع أن القاهرة والقدس ودمشق وبغداد وكل مدن الشّرق الأدنى الأخرى مملوءة بالألوان والقصص الخيالية لدرجة أن مجرّد ذكرها يثير خيال الغربيين العمليين الذين ينساقون فجأة فوق البساط السّحرى للذّكريات فيأخذهم إلى مشاهد الطّفولة المألوفة من خلال قصص ألف ليلة وليلة، وهكذا توصلت إلى نتيجة أن لورَنس هو نتاج الخيال الغربى زاد من توهجه احتكاكه الطّويل بالشّرق. لكن تبين لى أنّ هذه الأسطورة ما هى إلا حقيقة.
كان الرّجل الإنجليزى ذو الخمسة أقدام وثلاث بوصات يعتمر كوفية من الحرير الأبيض مطرزة بالذّهب، يثبتها فوق شعره بعقال، وهو عبارة عن حبلين صوفيين أسودين مجدولين بخيوط فضية وذهبية. كانت عباءته السّوداء السّميكة المصنوعة من وبر الجمل تغطّى رداءً من القماش الأبيض النّاصع المثبّت عند الخصر بحزام عريض مزركش بالذّهب يتدلى منه الخنجر المعقوف الذى يتقلّده أمراء مكّة، لقد أضحى هذا الشّاب فعليا حاكما لأراضى المسلمين المقدَّسة وقائداً أعلى لعدّة آلاف من البدو الذين يمتطون هجن السّباق والخيول العربيّة السّريعة، لقد أصبح مدعاة للرّعب بالنّسبة للأتراك.