اتصل سامى شرف، مدير مكتب الرئيس جمال عبدالناصر، بالمذيع الشهير أحمد سعيد، رئيس إذاعة صوت العرب، يوم 12 يونيو 1967، لإبلاغه أن الرئيس يطلب منه فصل الموجات الإذاعية، أى العودة للبرامج العادية.
كان الاتصال بعد أسبوع من نكسة 5 يونيو 1967، وبعد ثلاثة أيام من مظاهرات الملايين فى أرجاء مصر يومى 9 و10 يونيو 1967 لمطالبة عبدالناصر بالعدول عن قراره بالتنحى، واستعداده لتحمل المسؤولية كاملة عن الهزيمة، وبعد رجوعه بدأ فى إجراءات التغيير، وكان أحمد سعيد ممن طالهم هذا التغيير.
يذكر فى مذكراته «غير المنشورة» وبحوزتى صورة منها، أنه فى يوم 13 يونيو 1967 قرأ آخر تعليق له فى الإذاعة، وكانت هى آخر مرة تستمع الجماهير العربية إلى صوته الذى كان يجلجل منذ أن قاد «صوت العرب» بعد شهور من انطلاقها فى 4 يوليو 1953، وتنحية الشاعر صالح جودت أول رئيس لها.
قال «سعيد» فى تعليقه الأخير: «من النكسة يجب أن تتعلم الجماهير، ومن أسبابها يجب أن تعود إلى الحياة الحركة المعاصرة للتأريخ العربى، ومن نتائجها يجب أن تنطلق جميع قوى المائة مليون «عدد سكان العرب وقتئذ» سياسيا واقتصاديا وعسكريا لفرض المد العربى على الجزر الخرب المدمر».. وطرح «سعيد» فى تعليقه عدة أسئلة عن الأسباب الرئيسية للنكسة وهى.. ماذا يريد الاستعمار منا؟.. أين تقف منا دول العالم؟.. ما هى الأسلحة التى يمكن أن نخوض بها معركة سياسية أوغير سياسية، نزيل بها آثار العدوان.
أجاب «سعيد» عن أسئلته، ومما قاله: «إن الهزيمة تتمركز فى أسباب سياسية وعسكرية وعالمية وشعبية، حيث تتصل بمسؤولية الجماهير عن كل الثغرات التنظيمية والحكومية، وأيضا الممارسة الديمقراطية والتى نفذت وبسرعة مذهلة قاسية كل العناصر التى فرضت النكسة»..فى اليوم التالى لإذاعة هذا التعليق، طلبه محمد فائق وزير الإعلام..حدثه عن أن تعليقه كان به معان إثارية، وأن الناس قد تفهمه بشكل خاطئ مما يحدث بلبلة فى الشارع، وفاجأه بطلب وهو أن يشركه فى التعليق بعد ذلك بحيث يطلع على محتواه.. يؤكد سعيد: «رفضت بحدة بل هددت بالاستقالة».
خرج «سعيد» من الإذاعة إلى منزله.. وبتعبير الكاتب الصحفى عبدالله السناوى، فى كتابه «أخيل جريحا.. إرث جمال عبدالناصر»: «توارى فى الظل بعد أن كان ظاهرة لا مثيل لها فى التاريخ العربى الحديث»، مؤكدا: «صعد بتأثيره إلى حيث لم يصعد إعلامى آخر، وظُلمت أدواره كما لم تظلم أى أدوار أخرى، وكادت حجب النسيان أن تطوى ذكره».
يضيف السناوى: «هو أبرز أصوات الاستقلال الوطنى فى العالم العربى من أوائل الخمسينيات حتى هزيمة 1967.. خاض «إعلاميا» معركة إسقاط حلف بغداد عام 1955، الذى استهدف ملء الفراغ فى المنطقة بعد تراجع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وخاض حرب السويس عام 1956 حاشدا العالم العربى وراء مصر المقاتلة، وارتفع صوته فى 1958 بأحلام الوحدة المصرية السورية والتطلع إلى دولة عربية واحدة».. يؤكد السناوى: «طوال سنوات التحدى حتى انكسار هزيمة 1967 تصدر كل معركة من مشرق العالم العربى فى فلسطين والعراق وسوريا ولبنان إلى مغربه فى الجزائر والمغرب وتونس إلى الخليج واليمن».
تولى محمد عروق دفة الأمور فى صوت العرب بعد أن غادرها أحمد سعيد، وحسب السناوى: «لم يكن الهدف تغيير الرجال بقدر تغيير الدفة من التعبئة إلى التوعية، فقد اختلفت طبيعة الظروف والأحوال».. فى يوم 18 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1967 تقدم باستقالته رسميا إلى رئيس الجمهورية من منصبه، وكان نصها حسب صورتها معى: «السيد رئيس الجمهورية، سلام الله ورحمته وبركاته.. أمام ما يتوالى أمامى من تآكل للعمل المطلوب حماية للمبادئ التى عشت أدعو من أجلها، وتيقنى من استمرار الأسباب التى أدت إلى ما نزل ببلادنا ونضالنا، وتعدد شواهد إهدار الفرص الكفيلة بإخراجنا من المحنة ووأد جميع عناصرها: أجدنى وقد استشعرت الغربة فى الوطن والنفس والعمل مضطرا إلى تقديم استقالتى من إدارة إذاعة صوت العرب، داعيا الله عز وجل أن يخرج مصر والعرب من ظلمات الهزيمة وهوانها بالقضاء على أسبابها وقبر تداعياتها.. إنه نعم المولى ونعم النصير».
لم يتاجر أحمد سعيد بهذه الاستقالة، ولم يغادر معسكره القومى العروبى حتى نهاية حياته، وظل مدافعا عن عبدالناصر ومشروعه، وكل حرف من مذكراته يشهد بذلك.. وحسب السناوى: «عند انقلاب السياسات على عصر جمال عبدالناصر، استهدفت تجربة «صوت العرب» بضراوة، وأمامها كان يقول: «لم أصنع الهزيمة وبيانات النكسة لم تكن من تأليفى، هل كان مطلوبا أن أذيع البيان الذى يعجبنى وأحجب سواه؟».