أمضى الرئيس جمال عبدالناصر، يوما حافلا فى نيويورك، يوم 26 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1960، أثناء حضوره دورة الأمم المتحدة، وكانت الانتخابات الأمريكية تزداد حدة، بين المرشحين، نيكسون وكنيدى، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، فى كتابه «عبدالناصر والعالم».
يكشف «هيكل» وقائع هذا اليوم فى نشاط عبد الناصر.. يذكر: «فى الساعة الحادية عشرة صباحا، قابل همرشلد سكرتير عام الأمم المتحدة، وكان ينتظره على باب الجمعية العامة، فأخذه إلى مكتبه الصغير، وتحدثا فى المشاكل التى يعانى منها همرشلد مدة ساعة، وفاتهما كل خطاب «نوفوتنى» رئيس تشيكوسلوفاكيا.. كان قد سبق «دوجلاس هيوم» أن قابل الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية، واتفقا على أنه يجب بشكل ما ترتيب لقاء بين عبدالناصر وهارولد ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا، واشترط فوزى أن يذهب ماكميلان إلى الوفد المصرى ليقابل الرئيس لأنه ليس فى وسعه بعد حملة السويس «العدوان الثلاثى على مصر 1956» أن يقوم بالخطوة الأولى ويزور البريطانيين».
ويؤكد هيكل، أن «دوجلاس» وافق، لكنه اقترح أن يتعارف الرجلان لكى يستطيع ماكميلان زيارة عبد الناصر، ولأن ترتيب الوفود فى الجمعية العامة كان يجرى على أساس أبجدى، جلس ممثلو الجمهورية العربية المتحدة «مصر وسوريا» وبريطانيا جنبا إلى جنب، لا يفصل بينهما سوى ممر ضيق، وهكذا اتفق فوزى ودوجلاس على إجراء التعارف بين رئيسيهما حال ما ينتهى «نوفوتنى» من خطابه.
يذكر هيكل: «دخل همرشلد وعبدالناصر القاعة معا، وتوجه السكرتير العام إلى المنصة، بينما توجه الرئيس إلى كرسيه الخالى الذى كان البريطانيون يتطلعون إليه ببعض القلق على الترتيب المعد للقاء بين ماكميلان وعبدالناصر، وعبر دوجلاس إلى مكان جلوس الوفد المصرى، وهمس شيئا فى أذن فوزى الذى هز رأسه موافقا، وما أن انتهى «توفوتنى» آخر خطباء جلسة الصباح، نهض الجميع، وتواجه ماكميلان وعبدالناصر، وسار ماكميلان فى اتجاه عبدالناصر، وقال: صباح الخير.. أنا هارولد ماكميلان، فرد عليه عبدالناصر بأنه مسرور بمقابلته، وهكذا تحدثا فيما بينهما للمرة الأولى».
كان الحدث الثانى لعبدالناصر خلال هذا اليوم، وحسب هيكل، هو زيارته للرئيس الأمريكى إيزنهاور، فى فندق «والدورف استوريا» الساعة الرابعة بعد الظهر، وكان لقاؤهما الأول والأخير.. يضيف هيكل: «كان عبدالناصر مهتما بدراسة التاريخ العسكرى، وأعجب دائما بإيزنهاور كإدارى عسكرى، وكان معجبا بآلان بروك كاستراتيجى وبمونتجمرى كقائد تقليدى وبروميل وباتون كقائدين وخيال متقد كل على الأرض التى قاتل فيها.. ويؤكد هيكل: «بدأ الحديث بين الزعيمين، وعندما أشار عبدالناصر إلى أنه يشترك مع إيزنهاور فى أن كل منهما نشأ نشأة عسكرية لكنه انتقل إلى الميدان السياسى، رد إيزنهاور بأنه استدعى للخدمة فى الميدان السياسى، فقال عبدالناصر، إنه شخصيا تطوع من أجل ذلك».
ويذكر هيكل، أن حديثهما انتقل إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية، وكان عبدالناصر أمضى معظم أمسياته فى نيويورك فى البيت الذى شغله وهو يشاهد على شاشة التليفزيون تطورات الحملة الانتخابية، وفرض على نفسه هذه العزلة، لأنه اعتبر نفسه زائرا للأمم المتحدة وليس زائرا للولايات المتحدة.
ويضيف هيكل: «سأل عبدالناصر الرئيس إيزنهاور عمن يعتقد أنه سيخلفه، فقال إيزنهاور إنه يفضل أن لا يخوض فى الموضوع، وإن كان يشعر بأنه يمكن استنتاج اسم المرشح الذى يميل إليه، وقال عبدالناصر إنه سيجد صعوبة فى الاختيار إذا فرض، وأنه طلب إليه أن يدلى بصوته فى الانتخابات، فقد كان يشعر بأن كيندى أكثر فتوة وتحررا، ومع ذلك فإنه على ما قاله إيزنهاور يفضل أن يعطى صوته لنيكسون لأنه كان نائب الرئيس أثناء السويس، ولأن مصر لا يمكن أن تشعر إلا بعرفان الجميل حيال الموقف الأمريكى من أزمة السويس 1956».
ويعلق هيكل أنه عندما زار نيكسون مصر عام 1963، وكان خارج الحكم يحمل رسالة تعريف من الرجل الذى هزمه وهو الرئيس كنيدى، عومل بكل مراسم التشريف والتكريم المخصصة لنواب رؤساء الجمهوريات، وكأنه نائبا لرئيس الجمهورية رغم أنه كان سياسيا عاديا بل خارج ميدان السياسة، وزار السد العالى، وعندما قابل عبدالناصر بعد ذلك، قال له: رأيت اليوم أفدح خطأ ارتكبته أمريكا، فقد اعتصر قلبى عندما رأيت السوفيت يعملون جنبا إلى جنب معكم فوق موقع السد العالى، ولولا دالاس لكان هناك أمريكيون بدلا من السوفيت.
بعد لقاء إيزنهاور عاد عبدالناصر إلى مقر البعثة المصرية، وزاره الزعيم الهندى نهرو واليوغسلافى تيتو، وبعدها عاد إلى التليفزيون ليقابل كنيدى على شاشات التليفزيون، حيث كانت ليلة المناظرة الكبرى الأولى فى التليفزيون بين نيكسون وكنيدى والتى أدت إلى فوز كنيدى فى انتخابات الرئاسة.