قد يدهشك عزيزى القارئ، أن تعلم أنه وفي خلال 7000 سنة من تاريخ مصر ومنذ عصر ما قبل الأسرات وحتى بداية القرن العشرين لم يتجاوز عدد السكان في بلدنا في أي وقت 10 ملايين نسمة، بينما خلال 120 سنة فقط منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا زاد عدد السكان زيادة مهولة قدرها 94 مليون نسمة، ووصل حجم السكان إلى 104 ملايين نسمة. وهذه الزيادة وحدها تعادل إجمالي عدد السكان في 36 دولة مجتمعة منها على سبيل المثال لا الحصر أيرلندا وعمان والكويت وقطر وكرواتيا وأوروجواي ومنغوليا وألبانيا...إلخ.
وطبقا لتقارير الأمم المتحدة، فإن مصر هي واحدة من أسرع دول العالم من حيث النمو السكاني حاليا، وتتوقع هذه التقارير استمرار ارتفاع عدد السكان خلال السنوات الثلاثين المقبلة ليصبح 160 مليون نسمة بحلول عام2050. والأكثر إثارة للقلق من هذا هو توقع هذه التقارير بأن يتضاعف حجم السكان في مصر ليصل إلى 225 مليون نسمة بحلول نهاية القرن الحالي. فهل هذه الزيادة السكانية المهولة هي نعمة تستحق الاحتفاء، أم أنها ربما تكون نقمة وقنبلة موقوتة تدفع الدولة المصرية إلى نفق مظلم من الأزمات المتعددة وتلتهم جهود التنمية مهما بلغ معدل النمو الاقتصادي؟.
مما لا شك فيه أن حجم السكان فى أى دولة يعتبر ثروة بشرية وعنصرًا هامًا من عناصر الإنتاج ومصدرًا من مصادر قوتها وثقل وزنها بين دول العالم. ولكن هل هذا الأمر ينطبق على جميع دول العالم بلا استثناء؟، وبصفة خاصة هل ينطبق على الدول التي تعاني من معدلات زيادة سكانية مرتفعة تفوق معدلات النمو الاقتصادي لديها كما هو الحال في مصر؟، الإجابة بكل تأكيد لا.. لأن رأس المال البشري والذي يتكون من السمات الشخصية والمعرفية والمهارية والصحية للمواطنين والمتراكمة عبر السنوات يكون مترهلا رديئا عندما تفوق معدلات النمو السكاني معدلات النمو الاقتصادي، بحيث لا يتمكن هذا النمو من توجيه موارد كافية لتنمية هذا العنصر البشري، ولا يمكِّن الدولة من مواصلة هذا النمو الاقتصادي من الأساس. وفي هذه الحالة لن يتوفر للدولة عمالة مؤهلة لوظائف المستقبل التي تعتمد على التكنولوجيا وعلوم البيانات وغيرها ولن تستطيع تلك الدولة أن تنافس بفاعلية في الاقتصاد العالمي.
فإذا أردنا أن يكون لدينا في مصر سكانًا يتمتعون بالصحة والتعليم الجيد والقدرة على المنافسة في سوق العمل المحلية والعالمية، فيجب أن يكون معدل النمو السكاني أقل من ثلث معدل النمو الاقتصادي. وطبقا لإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن متوسط معدل النمو الاقتصادي في مصر بلغ 4.07٪ بين عامي 1992 و2017، بينما كان متوسط معدل النمو السكاني في نفس الفترة هو 2.17٪ أي أكثر من نصف معدل النمو الاقتصادي.
وأيضا فإن الزيادة السكانية لا تكون نعمة عندما لا تتناسب مع حجم الموارد الطبيعية للدولة، ويكون لها تأثير عميق على صحة الإنسان والبيئة. ولنأخذ مثالا واحدًا للتدليل على هذا الأمر وهو متوسط نصيب الفرد من المياه وعلاقته بعدد السكان.. حيث إن حصة المياه العذبة المتاحة لمصر هي نفسها اليوم تقريبًا كما كانت عليه قبل 120 عاما، بينما زاد عدد السكان بمقدار 10 أضعاف ما كان عليه وقتها. وبعد أن كان متوسط نصيب المواطن المصري من المياه في بداية القرن العشرين أكثر من 6000 متر مكعب سنويا، أصبح الآن أكثر بقليل من 500 متر مكعب سنويا وهو أقل بكثير من خط الفقر المائي لأى دولة والذي يعادل 1000 متر مكعب للفرد سنوياً. وقد اقتربت مصر بشدة من الدخول رسمياً في مرحلة الشح المائي خلال السنوات القادمة بسبب النمو السكاني المرتفع، فإنه وفى غضون 10 سنوات من الآن فإن متوسط نصيب الفرد من المياه سيكون 476 متراً مكعباً سنوياً وذلك بعد وصول تعداد مصر إلى 120 مليون نسمة تقريباً في 2030 طبقاً للتوقعات الديموغرافية، وذلك طبعاً بافتراض عدم تناقص حصة المياه المخصصة لمصر من نهر النيل والتي تقدر بـ55 مليار متر مكعب سنوياً بسبب ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، وهو ما يسعى إليه وبقوة المفاوض المصري في أزمة السد.
وعليه، فإن انخفاض متوسط نصيب الفرد من مياه نهر النيل بسبب الزيادة السكانية سيؤدي حتما إلى اعتماد الدولة المصرية بشكل كبير على منسوب المياه الجوفية لزراعة الغذاء الإضافي المطلوب لتغذية السكان المتزايدين، مما يضع ضغطًا أكبر على منسوب المياه الجوفية. بالإضافة إلى الحاجة لاستيراد المحاصيل والأغذية كثيفة الاستهلاك للمياه مما يضع ضغوطا إضافية علي عجز ميزاننا التجاري وقيمة العملة وتضخم الأسعار وبالتالي زيادة معدل الفقر.
وعلى الرغم من نجاح الدولة المصرية إلى حد كبير في حملات تنظيم الأسرة الحكومية في التسعينيات من القرن الماضي في إبطاء معدل النمو السكاني من 3.5٪ في السبعينيات إلى 1.7٪ في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد عاد معدل النمو السكاني إلى الزيادة من بعد 2008 ووصل إلى 2.11٪ في عام 2011، ولايزال يزيد عن نسبة 2٪ فيعام 2020.
وفي عام 2015 أطلقت الحكومة المصرية حملة "اثنان كفاية" التي تبلغ مدتها خمس سنوات وتنتهي هذا العام بتكلفة 19 مليون دولار للتوعية بالتكاليف الاقتصادية لإنجاب أكثر من طفلين. ومع ذلك، يرى الكثيرون بأن الحملة قد فشلت في التصدي للدوافع الاقتصادية والثقافية لإنجاب عدد كبير من الأطفال في الأسرة المصرية.
ومن هنا يبدو أن التصدي للمشكلة السكانية لا يمكن تنفيذه من خلال حملات إعلانية فقط وأصبح الأمر يتطلب أكثر من ذي قبل ضرورة إصدار قانون لتخطيط السكان. هذا وقانون كهذا يعد تحت مظلة نص المادة 41 من الدستور المصري والتي توجه الدولة لضرورة تنفيذ برنامج سكاني يهدف إلى تحقيق التوازن بين معدلات النمو السكاني والموارد المتاحة، وتعظيم الاستثمار في الطاقة البشرية وتحسين خصائصها، وذلك في إطار تحقيق التنمية المستدامة. وهذا النص يوجب على الدولة المصرية إصدار تشريعات تكفل للمرأة المصرية التي ترغب في استخدام وسائل تنظيم الأسرة الحماية الكافية ضد محاولات إجبارها على عدم الاستخدام، وتحمي المرأة المصرية أيضا التي ترغب في إنجاب عدد معين من الأطفال ضد محاولات إجبارها على إنجاب عدد أكبر، وتحدد بكل وضوح مسؤولية الجهات المعنية بتنفيذ برامج تنظيم الأسرة ومحاسبة تلك الجهات في حال الإخلال بالقيام بمسؤولياتها.
وبدون شك فإن نجاح أي برنامج يستهدف الممارسات اليومية للمواطنين، ويمس بشكل أو بآخر عادات متوارثة أخذت طابعا ثقافيا، لابد وأن يشرك وسائل الإعلام المصري الخاص من ناحية ومنظمات المجتمع المدني والأهلي في جهود التوعية والتنفيذ، وذلك للطابع التوعوي والتطوعي لتلك المؤسسات والتي لها من الخبرة والأدوات التي تتجاوز مجرد الدعاية والمراسيم الرسمية من خلال فهمهم العميق بالحاجات اليومية والأطر الاخلاقية والقيمية للمجتمعات الريفية والحضرية في مصر.
ومن هنا فالتعامل مع قضية الزيادة السكانية وإن كان تعاملا مع قضية قديمة إلا أنه يحتاج أسلوبا جديدا، أسلوبا يتسم بتضافر الجهود بين الدولة والمجتمع، والتوازن ما بين التوعية وسيادة القانون. فقضية محورية كتلك تمس موارد المصريين ومصائرهم ومستقبل أبنائهم تحتاج منا الجدية الكافية لمعالجتها وذلك قبل أن تجبرنا تلك القضية جميعا على إجراءات أكثر قسوة أو تحيلنا لمصائر أسوأ حالا.
حمى الله بلدنا مصر من مصائر السوء وأرشدنا جميعا لما فيه الخير لبلادنا ومستقبل أبنائنا.