عاد الدكتور ثروت عكاشة إلى القاهرة من روما، فور سماعه فى الراديو خبر تعيينه وزيرا للثقافة، وتوجه للقاء الرئيس جمال عبدالناصر يوم 9 أكتوبر، فى مثل هذا اليوم، 1958، معتزما الاعتذار عن المنصب، حسبما يكشف فى الجزء الأول من مذكراته: «مذكراتى فى السياسة والثقافة».
كان «عكاشة» ضمن أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بثورة 23 يوليو 1952، وارتبط مع قائده جمال عبدالناصر بعلاقة وثيقة وهما ضابطان فى الجيش قبل الثورة، وكان سفيرا لمصر فى إيطاليا، وقت إعلان خبر تعيينه وزيرا للثقافة.
يكشف «عكاشة» أسرار أربع ساعات هى زمن لقائه المثير مع «عبدالناصر»، جرى خلالها حوار رفيع بينهما يمكن اعتباره تأسيسا للمشروع الثقافى لثورة يوليو، فبينما كان يقدم مبررات اعتذاره، كان «عبدالناصر» يفندها، ويجدد تمسكه به، مؤكدا له أنه المؤهل والأجدر لقيادة المشروع الثقافى للثورة، يعترف عكاشة: «كان عبدالناصر بالغ الصبر، وكنت فيه شديد العناد والتصلب، والحق أن جمال عبدالناصر أدرك منذ مصافحتى له كل ما أضمره، وكأنه كان يقرأ أعماقى، وأخذ يفيض فى السؤال عن أسرتى وصحتهم وأحوالهم، ليؤجل بضع لحظات بدء مناقشة يعرف أنها ستكون طويلة وشاقة».
انتقلا إلى جوهر الحديث، وأبلغه «عكاشة» اعتذاره عن المنصب: «لا تقاعسا عن عمل جاد، بل تحاشيا لوقوع صدام محتم بينى وبين الشلل والتجمعات المتسلطة»، يتذكر «عكاشة»، أن «عبدالناصر» استمع مصغيا، ومقدرا، ثم أخذ فى إقناعه قائلا: «أنت الآن فى وضع يعلو وضع بعض من لا تطمئن نفسك إليهم، كما أنك ستشغل مكانا بعيدا عن المكان الذين يعملون فيه، فوزارتك تقع فى مبنى مستقل بقصر عابدين، وستكثر فيه لقاءاتنا معا، بل وبشكل منتظم، وهذا المنصب لن يغير شيئا من أنك تستطيع فى أى لحظة أن تجد بابى مفتوحا لك، أو أن تتصل بى برقم تليفونى المباشر».
أضاف «عبدالناصر»: «أصارحك بأنى لم أدعُك لشغل وظيفة شرفية، بل أعرف أنك ستحمل عبئا لا يجرؤ على التصدى لحمله إلا قلة من الذين حملوا فى قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها، وأنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر، وعلينا أن نعزق تربتها، ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذورا جديدة لتنبت لنا أجيالا تؤمن بحقها فى الحياة والحرية والمساواة، فهذا هو العناء، وأدعوك أن تقبل هذا العناء، وتشمر عن ساعد الجد، وتشاركنى فى عزق الأرض القاحلة وإخصابها، إن مهمتك هى تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصرى، وأعترف أن هذه أشق المهام وأصعبها، وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام فى بناء الإنسان، وأحب أن أبوح لك بأن على بابى هذا نحو عشرين شخصا متطلعين إلى منصبك هذا».
رد «عكاشة»: «إذن فلتمنحه أحدهم فإنى غير راغب فيه»، وزاد بأن هذا «يؤمنه من السهام الطائشة»، فسأله «عبدالناصر»: «ومن منا الذى يعمل آمنا من السهام المعادية؟! إن عظم المسؤولية جدير بأن يثير فى نفسك ما عهدته فيك من إقدام، ثم ما الذى ستفعله فى وزارة الثقافة غير تحقيق أحلامك التى طالما كنت ترويها على مسامعى قبل الثورة وبعدها؟»، يؤكد «عكاشة»، أن الرئيس أخذ يذكره بما كان يقوله له بعد عودته من المهام السياسية الخارجية، وحديثه - أى حديث عكاشة- عن النهضة الفنية فى الخارج والعروض المسرحية والأوبرالية والموسيقية ومعارض الفن التشكيلى والمنشآت الثقافية، وأمنيته أن يتحق ذلك فى مصر، وصارحه الرئيس بقوله: «لا أخفى عليك أن كل حديث كان يدور حول تنمية الثقافة والفنون كان يجعل صورتك تتراءى فى خيالى، وأذكر حديثنا قبل الثورة عن انحصار المتعة الثقافية، وبخاصة الفنون الراقية، فى رقعة ضيقة لا تنفسح إلا للأثرياء، وكيف ينبغى أن تصبح الثقافة فى متناول الجماهير العريضة، وأن تخرج من أسوار القاهرة والإسكندرية لتبلغ القرى والنجوع، فمن بين أبناء هذه القرى الغائرة فى أعماق الريف بالدلتا والصعيد يمكن أن يبزغ فنانون يعكسون فى إبداعهم أصالتهم الحضارية، ويبدو لى أن الآوان آن لتحقيق هذا المطمح، وكنت أنتظر هذه اللحظة لأسند إليك مهمة وزير الثقافة».
أضاف «عبدالناصر»: «لا تتصور أننى كنت أوفدك فى مهام مؤقتة إلى عواصم أوروبا، أو فى مهام طويلة كعملك الدبلوماسى فى باريس وروما، دون أن أضع فى اعتبارى ما تتيحه لك هذه الفرص من دراسة الأنشطة الثقافية والفنية فى أهم عواصم الفنون والثقافة فى العالم، وما زالت أمامك رحلات أخرى تضيف إلى حصيلتك، لكنك ستقوم بها بوصفك وزيرا للثقافة»، يؤكد «عكاشة»، أنه أحس أن «عبدالناصر» يضيق عليه الحصار ويمس أوتار قلبه، ويوقظ فى نفسه الأحلام، فطلب منحه فرصة لإعادة النظر، فرد الرئيس: «حسبتك تريد فرصة تجرب فيها حظك، وعلى كل، فليكن لك ما تريد، أخلد إلى عزلتك ليلة أو ليلتين، على أن تتذكر أن قرار رئيس الجمهورية، لا يقبل التغيير سريعا الذى توده أو الذى كنت توده»، وصافحه الرئيس مودعا.
خرج «عكاشة» متوجها إلى عبدالحكيم عامر، فماذا جرى بعد ذلك؟