حمل القطار جماعة من المتطوعين المحروسين بالجند شاهرى أسلحتهم، قاصدا القنطرة، فما أن ابتعد عن الزقازيق كيلومترات حتى ألقى واحد منه بنفسه أثناء السير، تخلصًا من التطوع الذى لم يكن بالطبع بناء على رغبته فمات فى ساعته.
هذا المواطن المسكين، يذكر قصته أحمد شفيق باشا فى «حولياته السياسية»، ولم تكن حالته فردية، فى تعبيرها عن الإقدام على الموت للتخلص من السخرة التى تعرض لها وغيره، عند تطبيق القرار السلطانى يوم 20 أكتوبر 1917 بتشجيع التطوع لخدمة الجيش البريطانى فى الحرب العالمية الأولى.. «راجع، ذات يوم، 20 أكتوبر 2020».
تنقل الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «مصر فى الحرب العالمية الأولى»، وعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 1919» صورا قاسية لمعاناة الفلاحين والعمال فى القرى من القرار الذى بدأت المديريات تنفيذه من «21 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1917».
تذكر «سالم» تعليق سعد زغلول فى مذكراته على تلك المأساة..قال: «افتخر رجال الحكومة بأنهم عارضوا فى التجنيد الإجبارى حتى منعوه، ولكن الحكام فى سائر أنحاء القطر أخذوا من بضعة أيام يتخطفون الناس من الأسواق ومن الطرقات ومن المساكن فى القرى ويحملونهم على أن يكتبوا طلبا بالتطوع فى الحملة، ومن يأبى من المخطوفين أن يختم، ضُرب حتى يختم، وفى بعض المراكز أقيم صانع أختام على باب المركز ليصنع ختما لكل من ليس له ختم وقد أبى الرجال فى أطسا، بمديرية المنيا، فجاءتهم قوة من العساكر والخفر وساقتهم إلى المركز مكبلين بالحديد، وهنا ضربوا حتى ختموا، وحدث أن بعض الأهالى فى جهة فارسكور «دمياط» رفضوا السير مع العساكر، وحدثت مشاجرة أدت إلى إطلاق النيران عليهم فقتل ثلاثة، والسلطة تستعين فى جمع الناس بكل طريقة من طرق الجبر بالإكراه، وهذا فضلا عن كونه أشد أنواع مصادرة الأمة فى حريتها، فإنه احتقار لها بإنزالها منزلة الأنعام السائرة».
تناثرت شهادات لإنجليز عاصروا هذا الحدث، وتستعين «سالم» بها.. تذكر شهادة «الجود» وكان أميرالايا فى الجيش الإنجليزى..يقول: «كان كل مدير مديرية مطالبا بأن يقدم من مديريته عددا معينا من الأنفار، وفشله فى ذلك كان يجر عليه لوما قاسيا من رؤسائه، أما كيف كان المديرون يحضرون الأنفار، فقد كان ذلك متروكا لتصرفات الموظفين فى كل مديرية وهؤلاء كانوا يفهمون بالإشارة، فشيوخ القرى اختاروا الضحايا الذين كانوا يرونهم مناسبين دون تدخل من أحد، لقد حانت لهم الفرصة لتصفية ثأرهم المبيت ضد أعدائهم، وأصبحت مصر الزراعية تمزقها الحزازات، فوشت العائلات ببعضها البعض الآخر وتسمم الجو بالفساد، وكان الفلاحون الذين لا يستطيعون دفع المال من أجل إعفائهم أول من كانوا يؤخذون غالبا ثم يعقبهم الأعداء الشخصيون لحكام القرية، وكان أهل الريف الذين يرتادون الأسواق يخطفون عنوة ثم يرحلون إلى أقرب معسكر عمل، وإذا كان أغلبهم يستسلمون للمصير فإن البعض منهم كان يقاتل من أجل حريته ويولى الأدبار».
كان الكاتب والمفكر سلامة موسى «ولد 1887 وتوفى يوم 4 أغسطس 1958» ممن عاصروا هذه المأساة، ويذكر فى شهادته: «فى تلك السنوات السود أثرى كثير من العمد ثراء فاحشا، فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين إلى الخمسين على مقدار ما يملكون، فهذا يؤدى خمسة جنيهات وذاك عشرة جنيهات حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم إلى فلسطين، وعرفت عمدة كان يملك ستة أفدنة فقط جمع نحو خمسة آلاف جنيه بهذه الطرق، وكان الفلاحون يجوعون كى يجمعوا هذه الغرامات ويؤدوها».
وعاصرها أيضا المؤرخ عبدالرحمن الرافعى «ولد يوم 8 فبراير 1889، وتوفى يوم 3 ديسمبر 1966».. يذكر فى كتابه «ثورة 1919»: «أخذت السلطات العسكرية منذ بداية الحرب العالمية الأولى تجمع ما تستطيع من الفلاحين والعمال بطريق الإكراه، وكان ظاهر الدعوة جمع هؤلاء العمال بطريق الاختيار والتطوع، ولذلك سموا «متطوعين»، ولكن الحقيقة أنهم كانوا مكرهين يؤخذون بطريق التجنيد، ووضعت الحكومة المصرية سلطتها وموظفيها رهن أوامر السلطة العسكرية البريطانية، فكان الحكام الإداريون من المديرين إلى عمد البلاد وخفرائها يقومون بعملية جمع الرجال قسرا وتجنيدهم، واغتنم كثيرا من العمد هذه الفرصة لسوق خصومهم إلى هذا التجنيد الذى كان بمثابة النفى والاستهداف للأخطار، وكان كثير منهم أيضا يتخذون الدعوة إلى هذا التطوع وسيلة للرشوة يبتزونها من الأهلين لإعفائهم من هذا التجنيد».
ويؤكد الرافعى: «بلغ عدد العمال والفلاحين والهجانة الذين أخذوا من مصر بهذه الطريقة حتى نهاية الحرب نحو مليون ونصف مليون عامل، مات كثير منهم، وكانوا عونا كبيرا لإنجلترا فى إدراكها النصر».