كان الطالب محمد عبدالحكيم الجراحى بكلية الآداب جامعة «فؤاد الأول» فى العشرين من عمره، وسيم الطلعة، يلتمع الذكاء من عينيه، محبوبا من زملائه، دمث الأخلاق وهو زهرة غضة فى مقتبل العمر، بقى خمسة أيام فى مستشفى «قصر العينىى بين الحياة والموت، بعد أن تلقى رصاصات قوات الاحتلال الإنجليزى، حتى نال الشهادة يوم الثلاثاء 19 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1935، وفقا للدكتور ضياء الدين الريس فى الجزء الثانى من كتابه «الدستور والاستقلال.. الثورة الوطنية 1935».
كان «الجراحى» من قيادات النضال الوطنى لطلاب الجامعة، وأصبح باستشهاده أحد أيقوناته التاريخية، خرج مع زملائه من ساحة الجامعة فى انتفاضة ضد الاحتلال الإنجليزى والقصر الملكى والحكومة، بدأت من يوم 14 نوفمبر 1935، ويرى الدكتور حمادة إسماعيل فى كتابه «انتفاضة 1935 بين وثبة القاهرة وغضبة الأقاليم، عام 1935 من الأعوام العلامة على طريق الحركة الوطنية المصرية، فهو المحطة التالية للحركة الوطنية ذات الطابع العنيف بعد ثورة 1919»، ويراها عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية، ثورة 1919»،صفحة مجيدة من تاريخ الشباب، وقد سميناها شبه ثورة، إذ كانت صورة مصغرة من ثورة 1919، وكان لها أثرها فى عودة الحياة الدستورية.
يذكر «الريس» أنه فى يوم 14 نوفمبر 1935، اجتاز طلاب الجامعة «كوبرى عباس»، يهتفون ضد الوزارة، ويطالبون بإعادة دستور 1923، وما كادت مقدمتهم تبعد بأمتار عنه، حتى فوجئوا بقوة من كونستبلات الإنجليز، كانت كامنة مترصدة لهم، وكانت تحت قيادة البكباشى «ليز» والكونستابل «لوكنز» وأخذت أوامرها بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فأصيب الطالب بكلية الزراعة محمد عبدالمجيد مرسى برصاص فى صدره، وكان الضحية الأولى من شهداء الجامعة، وأصيب محمد عبدالحكيم الجراحى، ومحمد عبدالله مكى بكلية الآداب، وإبراهيم شكرى بكلية الزراعة، وعبدالقادر زيادة بكلية الحقوق، ورجائى كامل حسين بكلية الهندسة وآخرون، ونقلوا جميعهم إلى المستشفى، وكانت إصابة «الجراحى» هى الأخطر.
واصلت الصحف نقل أخبار «الجراحى» أثناء علاجه، وقالت: إنه كتب خطابا إلى مستر «بلدوين» رئيس الوزراء البريطانى، ويذكر محمد عبدالرحمن حسين نصه فى كتابه «نضال شعب مصر من 1798 إلى 1956»، قائلا: «إلى رئيس وزراء إنجلترا روح الشر، سيدى - أحد رجالكم الأغبياء أصابنى برصاصة، وأنا أموت الآن شيئا فشيئا، ولكنى سعيد للغاية بأن ضحيت بنفسى. إن الموت أمر صغير وآلام الموت عذبة المذاق من أجل مصيرنا، فلتحيا مصر، ليسقط الاستعمار ولتسقط إنجلترا، وسيتولى الله عقابكم قريبا، أنتم وإنجلترا روح الشر- فلتحيا التضحية - أحد الشهداء المصريين - محمد عبد الحكيم الجراحى».
ينقل «حسين» عن الصحف أيضا أن «الجراحى» حينما رأى الضابط الإنجليزى «ليز» يضرب زميله محمد عبدالمجيد بالرصاص، تقدم منه قائلا: «أمن الشجاعة أن تضرب شابا أعزل فتقتله، هو أقوى منك ومن سلاحك»، فرد ليز مهددا:«أتود أن تلحق به؟»، ففتح الجراحى صدره:«لسنا جبناء مثلكم»، فأطلق الضابط الرصاص عليه، ليسقط على بعد خطوات من زميله.. يذكر «الريس» أنه طلب ورقة وكتب إلى زملائه رسالة قال فيها:«إخوانى الأعزاء، إنى أشكر لكم شعوركم السامى بالنسبة لما أديته، وأعتبره أقل من الواجب فى سبيل البلد الذى وهبنا الحياة، بل وهب الحضارة للعالم».
فى يوم 19 نوفمبر 1935 سمع الشعب نبأ وفاة «الجراحى».. يذكر الدكتور عاصم محروس عبدالمطلب فى كتابه «الطلبة والحركة الوطنية فى مصر، 1922 - 1952»:«ظل الطلبة لا يفارقون الجثة خوفا من تهريبها»، ويؤكد «الريس» أن وفاته آثارت أعمق حزن وأشمله، وفى الساعة الثالثة بدأت جنازته، وكانت من الأيام المعدودة فى تاريخ مصر، وخرج الشعب لوداعه فى موكب مهيب يتقدمه مصطفى النحاس باشا، وإلى يمينه الدكتور منصور فهمى، عميد كلية الآداب، وأحمد لطفى السيد مدير جامعة فؤاد الأول، والدكتور الطبيب نجيب محفوظ، وإسماعيل صدقى باشا، وزعماء الأحزاب، وآخرون، وعلت الهتافات:«مصر فوق الجميع».. «فليسقط الظلم وأنصار الظلم».. «العزاء لمصر»..«يسقط الاستعمار»..«فليسقط القتلة».
يؤكد «الريس»:«كانت الجنازة رمزا للمأساة التى كان الشعب يجتازها فى تلك الأيام، مأساة الحزن على المصير الذى آل إليه الوطن وفقد دستوره واستقلاله، وأصبح الإنجليز يحكمونه، وكادت تذهب جهوده طوال السنين هباء، وزعماؤه متفرقون متنابذون».