توجه المحامى الإنجليزى «برودلى» صباح 28 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1882 إلى سجن زعماء الثورة العرابية، لسؤال كل واحد منهم ما إذا كان يقبله محاميا عنه أمام المحكمة العسكرية التى أمر بها الخديو توفيق، بعد هزيمة الثورة فى موقعة «التل الكبير» يوم 13 سبتمبر 1882، ثم زحفهم إلى القاهرة واحتلالها فى اليوم التالى.
وافق «عرابى» على مهمة «برودلى» لأنه ترشيح من صديقه الإنجليزى الكاتب والباحث والرحالة «بلنت»، الذى يكشف فى كتابه المهم «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر»، أسرار مشواره مع «عرابى» وآخرين من قادة الثورة أبرزهم الشيخ محمد عبده.
ويسجل «برودلى» قصة دفاعه أمام المحكمة فى كتابه «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه»، ترجمه، عبدالحميد سليم، وفيها ما حدث معه أثناء زيارته إلى السجن يوم 28 نوفمبر 1882.. يذكر أنه وجد القومسيونين «المحققين» يعملان بجد، كما وجد إسماعيل أيوب «ناظر الداخلية» مشغولا فى وضع اللمسات الأخيرة لملفات الدفعة الأولى من المسجونين، وكان يتم استدعاء كل مسجون إلى الغرفة، ويسأله «القومسيون» فى تهكم حول ما إذا كان يريد محامين إنجليز يدافعون عنه؟ ويكشف كيف تم استخدام ورقة التكفير الدينى فى هذا المجال.
كان «عمر رحمى»، سكرتير عرابى أول من جاءوا به، ويذكر «برودلى» أنهم غرروا به بصورة مشينة لخيانة سيده السابق، وحين سألوه: هل تقبل إنجليزيا للدفاع عنك؟ أعلن اعتقاده أن العدالة لقضيته تجعل كل مساعدة كافرة نافلة تماما فى بلد إسلامى».. ويضيف: «أعقب هذا القول أن عم المائدة المغطاة بالجوخ الأخضر تصفيق رقيق».
كان المسجون الثانى الذى حضر لمقابلة «برودلى» هو «محمود فهمى باشا» ناظر الأشغال العمومية فى النظارة «الوزارة» التى كان فيها عرابى ناظرا للجهادية «الحربية»، وكان مهندس الخطوط المصرية فى موقعتى كفر الدوار والتل الكبير.. يصفه «برودلى» حين شاهده وهو يجيب عن أسئلة «القومسيون»: «كان قصير القامة، لا هو بالوسيم ولا بالقبيح، داكن البشرة جدا، فى الأربعين من عمره، عيناه مرحتان براقتان، ألقى القبض عليه عندما كان يأخذ فكرة عن تحركات الإنجليز فى القناة، وكان يدعى باستمرار رغم بشرته الداكنة جدا وفرنسيته المتكسرة، أن أحد المستعمرين الفرنسيين يشرف على حقول قطنه».
سأله «القومسيون»: «هل تقبل محاميا إنجليزيا يدافع عنك؟.. يذكر «برودلى»: «أجاب بغمزة من عينيه المرحتين السوداويتين الماكرتين البراقتين: لن يكون لى من المحامين سوى محامى أخى عرابى»..تدخل إسماعيل أيوب، وسأل برودلى: «ولكن هل توافق على مثل هذا العمل؟» واستطرد: يجب أن أحذرك مسبقا أننا سنستدعى الضباط الإنجليز ليبرهنوا على أن محمود فهمى كاذب بطبيعته، وأنه بتأكيد أكثر من عشرين شاهدا تجرأ وقال: «أفندينا عليه أن يحزم أمتعته ويقيم فى فندق شبرد».
رد «برودلى»: «حسنا مع احترامى البالغ لسعادتكم، فإننى لا أبالى بتهديدكم له حتى بما وصفتموه به، مثل قولكم عنه أنه كاذب بطبيعته، وأنه قال «أفندينا» عليه أن يحزم أمتعته ويقيم فى فندق شبرد»، ويسعدنى أن أتولى الدفاع عن محمود فهمى».. يذكر «برودلى» أن أصواتا ترددت تنم عن السخط والفزع، أشبه بفزع الورعين.
وغادر «فهمى» الغرفة إلى زنزانته ومعه «برودلى» وفيها باح «فهمى» بما داخله قائلا: «أنت تعلم بطبيعة الحال أننى استسلمت عن طيب خاطر للإنجليز».. وأضاف: «أريد أن أعرف أى نوع من الأشخاص الإنجليز أنت؟.. ثم سرد القصة كاملة، تحدث فيها عن إيمانه بعرابى، وكيف أصبح عضوا فى مجلس النواب، وفى الاجتماعات المشهورة التى عقدت فى الإسكندرية، وعن سدوده الترابية التى أقامها فى كفر الدوار والتل الكبير، وزياراته المتخفية للخطوط الإنجليزية، وسوء الحظ الذى أوقعه فى الأسر، وقال وهو يتنهد: «آه، عرابى المسكين لا يمكن أن يعمل بدونى، لو أننى أكملت المتاريس فى التل الكبير لما استطاع أبناء وطنك أن يأخذوا البلاد بهذه السهولة».
روى «فهمى» قصة أول ليلة قضاها أسير حرب عند الإنجليز، قائلا: «وضعونى تحت حراسة ضابط، وهددنى الملازم الذى كان مسؤولا عنى فى غلظة بأننى لو تحركت سيطلق النار، فأجبته بالفرنسية: «سيدى: «أننى قائد وأعرف واجبى، وما عليك إلا أن تؤدى واجبك أنت».
يعلق «برودلى»: «كان محمود فهمى واحدا من أقدر زملاء عرابى، ولم يحجم مرة على الإطلاق عن اعترافه بعقيدته السياسية، وتوجه مع كل أفراد أسرته الكبيرة من بنين وبنات إلى المنفى دون أن يشكو من شىء، سخر من فقدانه لرتبته وأملاكه، كان الذكى الأمين البشوش وروح المستعمرة المصرية فى كولمبو، كان يربى أبناءه الذكور ليؤدوا واجبهم كمواطنين عندما يحين الوقت».