بدأت المرافعات فى محكمة «جنح بولاق» يوم 31 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1989، فى القضية المرفوعة من أحمد أبوالفتح، ضد الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، وجريدة «الأهرام» برئاسة إبراهيم نافع، مطالبا بتعويض 30 مليون جنيه كرد اعتبار لشقيقه محمود أبوالفتح، لتعرضه للسب والقذف من «هيكل» فى كتابه «سنوات الغليان»، المنشور على حلقات فى «الأهرام» عام 1989، حسبما يذكر الزميل «عبدالله سالم»، فى تحقيقه الموثق «السيرة الحائرة..أسرة أبوالفتح بين التخوين والتكريم» فى «المصرى اليوم، 3 و4 و5 2020».
كانت القضية واحدة من أهم قضايا الرأى العام فى مصر الحديثة، بوصف «الأهرام» وفقا لسالم، وجدد «هيكل» فيها الحديث عن صفحة فى تاريخنا «غاب فيها استقصاء الحقيقة أو السعى لمعرفة ماذا حدث» بتعبير الكاتب الصحفى عبدالله السناوى، فى كتابه «أحاديث برقاش- هيكل بلا حواجز».. مضيفا: «فى غياب الحساب عاد أحمد أبوالفتح بعد رحيل عبدالناصر، وفتحت المنابر الصحفية أمامه للهجوم عليه والنيل من كل قضاياه، وإذا بالرئيس السادات يمنح وسام الجمهورية من الطبقة الأولى باسم محمود أبوالفتح عام 1981».
بدأت وقائع هذه القصة قبل معارك العدوان الثلاثى «بريطانيا، فرنسا، إسرائيل» ضد مصر يوم 29 أكتوبر 1956، وبتعريف «هيكل» فى «سنوات الغليان»، فإن محمود أبوالفتح صحفى مشهور بدأ فى الأهرام، وشارك فى تأسيس جريدة المصرى، وانفرد بملكيتها فيما بعد، وانتقل من الصحافة إلى الأعمال، وكون ثروة كبيرة من تجارة الورق فى ظروف الحرب العالمية الثانية، وأصبح من أصحاب الملايين، وقادته مصالحه إلى أن أصبح إحدى أدوات مخطط العدوان البريطانى الفرنسى الإسرائيلى.
غادر «أبوالفتح» القاهرة إلى بيروت فى مايو 1953، ثم انتقل إلى جنيف ومنها بدأ فى تكوين جبهة معارضة لعبدالناصر باسم «لجنة أحرار العرب»، وأطلقت إذاعة «مصر الحرة» يوم 28 يوليو 1956 بعد قرار تأميم قناة السويس بيومين.. يتذكر خالد محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة، فى مذكراته «والآن أتكلم»، أنه أثناء معيشته فى جنيف التى سافر إليها باتفاق مع عبدالناصر بعد انتهاء أزمة مارس 1954، كان يجلس دائما فى أحد المقاهى مع أصدقاء، ومعهم أحيانا «محمود أبوالفتح»، وبعد توقيع اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصر «19 أكتوبر1954» سأله أبوالفتح: «انت موافق على الاتفاقية؟.. فأجاب خالد: لا.. يضيف خالد: «بدأت مناقشات ضد الاتفاقية لم أتوقع أنها مجرد بداية لمحاولة نصب شرك لى كى أتعاون معه، انتهت المناقشات بشكل عادى، وغاب ليعود لمقابلتى بعد حوالى شهر، وتحدث بحماس عن ضرورة فعل شىء لإنقاذ مصر من براثن حكم عبدالناصر، وتحدث عن دورى، وحاول إثارتى وكيف أننى مبعد، وكيف أن علىّ واجب إزاء الوطن، وأخيرا وصل إلى غايته.. ستكون هناك محطة إذاعية موجهة إلى مصر، ومطلوب منى أن أتحدث فيها بشكل مستمر، وأكون شريكا فى العملية كلها».. يؤكد خالد: «أخطأ أبوالفتح الخطأ القاتل عندما حاول إغرائى بالمال، فقال: نحن نعلم أنك تتقاضى معاشا وبدل سفر، وطبعا سوف يقطعون ذلك كله، ونحن على استعداد أن نسلم لك مقدما يساوى ما ستتقاضاه لمدة عشر سنوات، ولم ينس أن يقدم شروطه بعد أن قدم الإغراء، فقال وكأنه يتحدث بشكل عشوائى وبلا تخطيط مسبق: «وطبعا، بلاش حكاية الاشتراكية واليسار والكلام ده».
رفض «خالد» وانتهت علاقته بمحمود أبوالفتح، مؤكدا: «لم أكن أبدا ضد ثورة أسهمت فى صناعتها، وعشت أجمل سنوات حياتى أحلم بها وأعمل من أجلها»، بينما استمر «أبوالفتح» فى نشاطه ومحاولة تدعيم علاقته ببريطانيا وفرنسا.. يذكر «هيكل»، أن الوثائق السرية لوزارة الخارجية البريطانية تقدم صورة حية لمحاولات محمود أبوالفتح مع بريطانيا، وبلغت قمتها فى عريضة قدمها باسم «لجنة مصر الحرة» إلى رئيس الوزراء البريطانى «انتونى إيدن» برقم «311-118832-117364، وبتاريخ 27 يناير 1956».
بلغت الوثيقة 8 صفحات، وينشر «هيكل» نصها فى ملحق الوثائق بكتابه «سنوات الغليان».. يقول «أبوالفتح» فيها: «إن فى مصر الآن حكومة بوليسية كاملة، وأن الغرب يمكن أن يواجه فى هذا البلد المهم بموقف معاد مثل الذى نشأ فى جواتيمالا، ولما كانت مصر تمارس نفوذا كبيرا فى المنطقة المحيطة بها، فإن الخطر الشيوعى من مصر يمكن أن يمتد إلى ما حولها، مما يهدد مصالح الغرب الحيوية فى المنطقة».
واختتم كلامه إلى «إيدن» قائلا: «بريطانيا والولايات المتحدة تصرفان الآن ملايين الدولارات للحصول على صداقات هشة فى المنطقة، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة وبريطانيا تستطيعان بجزء بسيط من هذه الأموال أن تساعدا أصدقاءهما على خلق أداة كفء، وقدرة للدعاية التى يمكن أن تحمى مصالحهما فى المنطقة».
وقع «أبوالفتح» بخطه على هذه الخاتمة الملتوية والمهينة، بوصف هيكل، وبعد نشرها ذهب شقيقه «أحمد أبوالفتح» إلى القضاء، وبدأت المرافعات، فماذا جاء فيها؟