عندما قرأت منذ عام تقريبًا كتاب "فى أثر عنايات الزيات" للشاعرة إيمان مرسال، كانت بالنسبة لى المرة الأولى التى أعرف بالصداقة القوية التى جمعت عنايات مع النجمة نادية لطفى، لذا عندما صدرت مذكرات نادية لطفى مؤخرًا، والتى كتبها أيمن الحكيم، وصدرت عن دار نهضة مصر، كنت حريصًا على معرفة ما قالته النجمة الكبيرة عن صديقة عمرها الراحلة.
أشارت نادية لطفى فى بداية المذكرات إلى عنايات الزيات، وقالت إن ما حدث لها كان أول صدمة فى حياتى، لكنها خصصت لها فصلاً فى الكتاب تحت عنوان "عنايات الزيات.. أول مثقفة فى حياتى".
وقالت نادية لطفى:
أول نموذج من المثقفين عرفته فى حياتى كانت هى صديقة عمرى وزميلتى فى سنوات دراستى بالمدرسة الألمانية.. عنايات الزيات.
وعنايات كانت أختى التى لم تلدها أمى، ولو رزقنى الله بأخت ما كانت لأحبها مثلما أحببت وارتبطت بعنايات، فقد عوضتنى كثيرًا عن وحدتى وحرمانى من وجود أخ أو أخت، كما أننى كنت أقرب إليها من شقيقتيها "عايدة" و"عظيمة" وكانت هى أوسطهن، والغريب أنها كانت تسبقنى بعام فى المدرسة الألمانية، ولكنها تعثرت سنة دراسية أو أجلت امتحاناتها لظروف خاصة بها فوجدتها فى العام التالى زميلتى فى الفصل.
لم تكن عنايات فى البداية اجتماعية، وحتى فى وقت الفسحة كانت تنزوى فى مكان بعيد وفى يدها كتاب غالبًا باللغة الألمانية التى تجيدها بطلاقة، مستغرقة فى قراءته، ولكننا أصبحنا أصدقاء عندما عرفت أنها مثلى تحب الرسم ونجمتنا السينمائية المفضلة واحدة هى فاتن حمامة، وبسرعة صرنا أصدقاء، بل ما هو أكثر من الصداقة، نخرج معًا ونتفسح معًا ونذاكر دروسنا معًا، ونختار فساتيننا من نفس القماش ونفس الموديل ونذهب إلى نفس الخياطة "مدام أفلاطون" وحتى فى إجازة الصيف سلطتنى على والدها "عم عباس" لأقنعه أن يحول وجهته من مصيف راس البر كما اعتاد إلى الإسكندرية كما اعتادت أسرتى لأكون مع عنايات.
كنا متشابهين فى كل شىء، لدرجة أنها كانت تسمينى "أختى فى الرضاعة" ولم يفرقنا القدر حتى بعد زواجى، أنا تزوجت فى العام 1954، وحينها لم تكن تفارقنى فى فترة التحضير للزواج والرحلات اليومية إلى المحلات لشراء "الشوار" من ملابس وأدوات منزلية وغيره، وكانت هى بمثابة وصيفتى يوم حفل زفافى، وقد تزوجت بعدى بعامين تقريبا فى شتاء عام 1956.
وكان زواج عنايات بداية رحلة العذاب فى حياتها، لم تغفر لنفسها ولا لأسرتها أنها تركت مدرستها قبل عام واحد من حصولها على "البكالوريا" وتحقيق حلمها بالالتحاق بالجامعة، من أجل زوج "لقطة" كما ظنت أو تمنت، فقد كان طيارا من أسرة ثرية، بما يعنى أنها ضمنت حياة سعيدة ومستقرة، ولكنها فوجئت بزوج عصبى وعنيف، نموذج مختلف تماما عما قرأت عنه فى الروايات الرومانسية وتمنت أن تعيش فى الواقع.
حاولت أت تتحمل فى البداية، خاصة بعدما رزقها الله بابنها الوحيد "عباس" لكنها وجدت نفسها تثور وتنفجر وتطلب الطلاق، لم تكن ثورتها على حالتها الشخصية فقط، بل تثور على المجتمع كله الذى يظلم المرأة ويقهرها ويعاملها على أنها قاصر وتابعة وإنسان ناقص الأهلية، لم تتحمل روحها الحرة المبدعة المتمردة جدران السجن الذى وجدت نفسها فيه، فقررت أن تحطم قيودها.
طلبت عنايات الطلاق بعد ثلاث سنوات من تجربة زواجها التعسة، وعادت إلىى بيت أبيها فى حى الدقى، تحمل طفلها الصغير، وقررت أن تفتح صفحة جديدة من حياتها وتبدأ فى تحقيق أحلامها، فالتحقت بعمل فى مكتبة المعهد الألمانى، والأهم راحت تحقق حلمها الأكبر فى أن تصبح كاتبة، وفى تلك الظروف الصعبة كتبت روايتها الوحيدة "الحب والصمت" التى كانت بمثابة صرخة من عذاباتها وغربة روحها وبحثها عن نفسها وثورتها على الدنيا التى ظلمتها.
ولم تكف عن كتابة خواطرها الحزينة الغاضبة التى تعبر فيها عن روحها المعذبة، وفى كل مرة كنت ألتقيها كانت تحمل إلى ما كتبته وما زلت أحتفظ بأوراقها، ولا أمنع نفسى من البكاء إذا ما قرأت كلماتها المكتوبة بدموعها "أيتها الجميلة فى النافذة، أيتها الحزينة...؟"
كان فى داخلها براكين من الغضب تشعر أن الدنيا خذلتها وأضاعت أحلامها، وحاولت أن تعبر عن هذا الغضب، فى الحب والصمت، كانت الرواية تجسيدا لتجربتها الشخصية، ومعاناتها وأحزانها، ولذلك أتصور أنها كانت تقصدنى بشخصية "نادية" صديقة نجلاء بطلة الراوية وموضع سرها والأقرب إلى قلبها.. وأظن أنها انتهت من كتابتها عام 1960 وفى ظروف شخصية غاية فى القسوة عصبيا ونفسيا حيث كانت قد بدأت معركتها فى المحكمة من أجل الطلاق وانتزاع حريتها.
وبحكم قربى منها قرأت مسودة الرواية، وشجعتها على نشرها، وفعلا قدمتها إلى "الدار القومية" وهى دار نشر حكومية أنشئت بعد ثورة يوليو، وفى تلك الفترة حاولت إدماج عنايات فى الوسط الثقافى، وكنت قد ارتبطت بحكم عملى بالسينما بصداقات مع مثقفين ومبدعين وكتاب بداية من مصطفى محمود وأحمد رجب وأنيس منصور ويوسف السباعى وأذكر أننى صحبت عنايات لمقابلة يوسف السباعى فى مكتبه بنادى القصة.
وصحيح أننى انشغلت عنها فى تصوير أفلامى الجديدة، إلا أننى كنت حريصة على أن ألقاها كلما سنحت الفرصة، وكانت هى تزورنى أحيانا فى الإسكندرية مقر إقامتى بعد زواجى من القبطان عادل البشارى، أو أزورها فى القاهرة فى كل زياراتى.
أما عيد ميلادى فكان مناسبة لم تتأخر عنها أبدا، إلى أن كان يوم عيد ميلادى فى 3 يناير 1963 كنت قد اتفقت معها أن تمر على صباحا لنسافر معا إلى الإسكندرية لتحتفل معى بالمناسبة مع أسرتى هناك، فوجئت بها تعتذر، كان وجهها شاحبا وذهنها شاردا، وتغالب دموعها فى صمت، وعرفت منها أنها خلال الساعات الأخيرة تلقت صدمتين مروعتين وأنها فى حالة نفسية سيئة لن تمكنها من الاحتفال معى.
الأولى أن محاميها أخبرها أن محامى زوجها نجح فى الحصول على مستندات تفيد أنها تتلقى علاجا نفسيا ودخلت مصحة من قبل، مما يجعل زوجها فى موقف قانونى قوى يمنحه بسهولة حكم بحضانة "عباس" ابنهما الوحيد المتنازع عليه، وفقدانها لابنها هو عندها "كارثة" لن تستطيع تحمل تبعاتها.
ولأن المصائب لا تأتى فرادى فإنها تلقت كذلك اتصلاً من "الدار القومية" تخطرها بأن روايتها لا تصلح للنشر.
وحاولت جاهدة فى ذلك الصباح أن ألح عليها وأقنعها بأن تسافر معى حتى تنسى أحزانها، لكنها اعتذرت باستبسال وفضلت البقاء فى القاهرة على أن تزورنى فى صباح اليوم التالى بمجرد عودتى من الإسكندرية، ورجعت من السفر مرهقة ومنهكة واستسلمت للنوم، ولكن على استعداد للاستيقاظ بمجرد مجيئ عنايات، وكنت مشغولة البال عليها منذ أن اعتذرت عن حضور عيد ميلادى لأول مرة منذ كنا زميلات فى المدرسة.
ولما استيقظت فوجئت أننى نمت ساعات طويلة، وأن الليل قد حل وفوجئت باتصال أم عنايات تهنئنى بعيد ميلادى وتقول لى مداعبة: عنايات تأخرت عندك قوى، يا ريت تفرجى عنها بقى، فلت لها بجدية: عنايات مش عندى أصلاً.. وأخبرتنى أنها تركت لها ابنها فى الصباح متعللة بأنها ذاهبة لتزورنى ومن حينها وهى لم ترجع.
وتصوروا أنها تقضى بعض مشاويرها، ولكن الساعات مرت ولم تعد عنايات، وظلت فى حالة من الترقب، والانتظار والقلق، ولم يخطر فى بالهم أنها فى حجرتها جثة هامدة، إذ كانت تعيش مستقلة فى الطابق الثانى من البيت الذى بناه والدها فى الدقى، وكسروا الباب وبانت الكارثة، فقد كان بجوارها "علبة المنوم" فارغة ورسالة اعتذار لابنها الصغير.. إذن عنايات انتحرت.
لما أبلغونى بالخبر جريت كالمجنونة على بيتها، ما زلت أذكر العنوان بالضبط: 16 شارع عبد الفتاح الزينى، ميدان أسترا الدقى، وبدون تفكير دخلت حجرتها وقفلت الباب، كانت مسجاة على سريرها، قعدت أكلمها وألومها وأزعق لها، كأنها أمامى تسمعنى: ليه يا عنايات .. ازاى تعملى كده فى روحك؟ ورحت أضرب الجدران والأثاث بلا وعى، كأننى فى كابوس أريد أن أفيق منه، كانت الصدمة فوق طاقتى، وخرجت ولم تحتمل أعصابى أن أسير فى جنازتها لأننى لا أريد أن أصدق أنها رحلت ولن أراها ثانية.