انتهى عبدالحليم حافظ من تقديم أغنية «حكاية شعب» فى الحفل الساهر بأسوان يوم 10 يناير، ليلة 11 يناير، مثل هذا اليوم، 1960، بعد قيام الرئيس جمال عبدالناصر، والعاهل المغربى محمد الخامس، والرئيس السورى شكرى القوتلى، بوضع حجر الأساس للمرحلة الأولى من مشروع السد العالى يوم 9 يناير 1960.. كانت الأغنية مفاجأة، وغير مسبوقة فى كلماتها ولحنها، وأثارت جدلا ومخاوف قبل تقديمها بين عبدالحليم، ومؤلفها أحمد شفيق كامل، وملحنها كمال الطويل.. «راجع، ذات يوم، 9 و10 يناير 2020».
يذكر مجدى العمروسى، صديق عبدالحليم ومدير أعماله، فى كتابه «أعز الناس»، أنه بمجرد أن قام عبدالحليم بحركة الانتهاء، وقفل الأغنية، حدثت المفاجأة التى أذهلت الجميع، عاصفة من التصفيق، وصيحات هستيرية من عشرة آلاف كانوا يحضرون الحفل فى أسوان، صفق جمال عبدالناصر، ووقف رجال الثورة على أقدامهم يصفقون، ويشيرون لعبدالحليم أن يعيد الأغنية، طلب «عبدالناصر» من عبدالحليم إعادة الأغنية، أراد أن يبدأ من أول غنائه، لكن عاصفة من الاعتراضات قابلته: «عاوزين من أول المزيكا، وواحد من الجمهور صرخ: وانت تخرج بره وتخش تانى.. فعلا خرج عبدالحليم إلى كواليس المسرح وبدأت الموسيقى، وبدأ الكورال ودخل عبدالحليم، وبدأت الأغنية، ولكن بشكل آخر وتصفيق، واستعادة مقاطع، وترديد بعضها مع عبدالحليم».. كان كمال الطويل يتابع الحفل من القاهرة، ولم يستطع البقاء فى البيت، وقادته قدماه إلى مقهى فى «سيدنا الحسين» جلس فيه مع الناس، واستمع معهم إلى الأغنية.
كانت «حكاية شعب» واحدة من أغانٍ كثيرة خلدت معركة السد العالى، منها قصيدة أم كلثوم «كان حلما فخاطرا فاحتمالا ثم أضحى حقيقة لا خيالا» تأليف عزيز أباظة، وألحان رياض السنباطى، وقدمتها فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة يوم 25 نوفمبر 1959، وقدم محمد عبدالوهاب أغنية «ساعة الجد» عام 1960، وأغنيات «حديد أسوان» لمحمد قنديل، كلمات عبدالفتاح مصطفى، ألحان أحمد صدقى، و«اعمل لنا مفتاح»، كلمات صلاح جاهين، وألحان أحمد صدقى، و«على أسوان يا ريس» لمحمد عبدالمطلب، و«هنا فى مكان السد» لمحرم فؤاد، و«طول ما انت معانا يا ريس» لهدى سلطان، و«السد» لشادية، كلمات حسين السيد، لحن مراد منير، و«يا أسطى سيد» لفريد الأطرش، كلمات رسماعيل الحبروك.
فى لقاء خاص بى مع الموسيقار عمار الشريعى عام 1996 لمناقشته حول طبيعة «الغناء الكلثومى فى مرحلة ثورة 23 يوليو 1952»، ونشرته فى كتابى «أم كلثوم وحكام مصر»، قارن الموسيقار الكبير بين «حكاية شعب» لعبدالحليم، و«كان حلما فخاطرا» لأم كلثوم، و«ساعة الجد» لعبدالوهاب، قائلا: رغم أن الأغنيات الثلاث كانت لمعركة واحدة هى معركة السد العالى، إلا أن هناك اختلافا فى السمات والمذاق الغنائى لها، كما أن كل أغنية حملت سمات صاحبها، فأغنية عبدالحليم قامت على التدفق والشعبية والسيطرة الجماهيرية: «تسمعوا الحكاية».. يرد الكورس: بس قولها من البداية.. عبدالحليم: هى حكاية حرب، ونار بينا، وبين الاستعمار فاكرين، لما الشعب اتغرب جوه فى بلده.. كورس: «آه فاكرين».
يضيف «الشريعى»: «افترضت الأغنية هنا وجود جمهور يتم الحديث معه، ثم نامت على كتف الفلكلور المصرى بعبارة «ضربة كانت من المعلم».. جملة صغيرة وقصيرة، ترددها الحارة المصرية.
يضيف عمار: «أما أغنية «كان حملا فخاطرا فاحتمالا» لأم كلثوم فهى قصيدة شعر، وأم كلثوم تصدت للقصائد فى الغناء الوطنى، وربما يقول البعض: إنها قدمت العامية مثل «حولنا مجرى النيل يا سلام على ده تحويل».. والرد على ذلك يكمن فى أنها كانت تستطيع أكثر من غيرها تصدير الغناء العامى والفصيح إلى الأمة العربية، كانت هى الأكثر سيطرة على الوجدان العربى، ويقبل منها الجمهور العربى ما يتردد فى قبوله من الآخرين، ولهذا يقبل منها أغنيتها الوطنية العامية، وقصيدتها الوطنية الفصحى، وقصيدة «كان حلما فخاطرا فاحتمالا» مثلت الأغنية الرصينة التى تصلح للتصدير لكل الأمة العربية، بما شملته من لحن يقوم على كبرياء وعنفوان السنباطى، الذى جمع عبقرية الموسيقى العربية كلها، وقدم هذه القصيدة بفكر موسيقى له مقدمات تؤدى إلى نتائج..أى فكر مخطط يصلح للتصدير إلى الأمة العربية.
يتدفق الشريعى: «أما أغنية «ساعة الجد» لمحمد عبدالوهاب، كلمات حسين السيد، فاتسمت بسمات عبدالوهاب الباحث دائما عن الفكر الجديد، والموضوع الجديد، وهذه الأغنية تعاون فيها للمرة الأولى والأخيرة مع المايسترو العبقرى عبدالحليم نويرة، ونتج عن هذا التعاون ولادة أغنية مزجت بين غناء عبدالوهاب الهادر الرصين، والدقات العمالية وكأن عملية البناء تحدث لحظة الغناء».