انفراد يكشف كيف تابعت الصحف والمجلات رحيل بيرم التونسى .. شعبان يوسف يلقى نظرة سريعة على علاقة الشاعر بثورة يوليو .. ويؤكد: باحث سورى يسطو على كتابات مصريين ويصدر أبحاثا عن التونسى

ننشر الحلقة الثانية مما كتبه الشاعروالناقد شعبان يوسف عن حياة وموت الشاعر الكبير بيرم التونسى، والتى يكشف فيها كيف تابعت الصحف والمجلات رحيل التونسى، وما نشر عنه وعن ظروفه، وكيف أن باحثا سوريا استولى على ما نشره السابقون وألف أبحاثا حول بيرم. عزل بيرم بأمر السلطات: ظل الشاعر والزجال وكاتب الأغانى والمسرحيات والأوبريتات العظيم محمود بيرم التونسى يعانى من الإهمال بدرجة قصوى وقاسية طوال حياته، ولم تستطع مجلة أو صحيفة واحدة _عندما كان فى المنفى_ منذ أن نفاه الملك والمستبد أحمد فؤاد منذ 25 أغسطس 1920 أن تحتفى بهذا الشاعر الذى لا تخفى أشعاره على أحد، بعدما حظيت برواج شعبى وجماهيرى واسعين، وذلك ماقبل عام 1920، والذى كان يحدث بعد ذلك أن أشعاره وأزجاله كانت تنتشر بشكل سرى، وعندما كتبت مجلة أبوللو عام 1934 عنه، كتب الشاعر أحمد زكى أبو شادى بشكل عابر، وكتب أحد النقاد_فى المجلة ذاتها_ مقالا طويلا يطالب فيه الملك المستبد فؤاد بالعفو عن الشاعر، والسماح له بالعودة، وبهذا الصدد كتب بيرم قصيدة طويلة_مضطرا_ لمدح الملك، ولكنها_أى القصيدة_ لم تخل من غمز ولمز، مما أقنع المسئولين بعدم السماح له بالعودة، حيث إنه مازال قادرا على الهجاء بطريقته المحببة، وبالشكل الفنى الذى ينتشر بصورة واسعة ومؤثرة فى الحوار الذى أشرنا إليه سابقا، وكان قد أجراه المحرر لطفى رضوان، ونشر بمجلة الكواكب فى 25 نوفمبر 1952، يدرك بيرم جيدا العزلة التى فرضت عليه بقسوة، حتى فى العهد الجديد الذى جاء بعد يوليو، إذ يقول فى أسى شديد للمحرر : "..إننى أعيش فى بلد لا يعرفنى، بل إننى غير معروف (الصنعة) فى أسرتى.."، ويستند بيرم إلى ثقافته الواسعة ويستدعى مثالا من التاريخ قائلا: "..وقد قال سيدنا سليمان الحكيم عن الهدهد: لأذبحنه ولأعذبنه عذابا شديدا..)ـ فقيل له : (ماهو العذاب الذى يكون أشد من الذبح؟)، فأجاب: (أن يوضع فى طائفة من غير بنى جنسه)..كذلك أنا ياصديقى". بيرم التونسى هذا ماقاله بيرم وأدركه بحكمة تجربته المريرة فى حياته الأدبية والفنية والثقافية المديدة، حتى فى عهد ثورة يوليو التى انتصرت للكتّاب والمبدعين بعض الوقت، ولم يكن بيرم يعانى من صلف القيادات السياسية، بقدر ما كان يعانى من أقرانه، من المبدعين والشعراء والنقاد، وهذا ما جعل صلاح جاهين يصرخ وهو يرثيه فى القصيدة التى نشرتها مجلة روز اليوسف بعد الرحيل فى 9 يناير 1961 قائلا: (..فايت فى قلب القاهرة ومعدى هو عارفها وهى مش عارفاه على كل حارة وكل عطفه يهدى كأنه راجع لسه من منفاه بيبوس بعينه اللبده والجلابيه..). منتهى القسوة! بيرم وثورة يوليو..نظرة عابرة: أما الاهتمام الذى يزعمه كثيرون بعد ثورة 23 يوليو 1952، فهو اهتمام شكلى، وذلك لذر الرماد فى العيون، وهذا لا يقلل إطلاقا من شأن جهود ثورة يوليو فى مجال الثقافة، وهذا ما سنعود إليه بالتفصيل عن علاقة بيرم التونسى بثورة يوليو، وماذا أخذت منه، وماذا أضاف إليها، ولكن بشكل عابر هناك أكثر من نقطة فى هذا الأمر، النقطة الأولى تتركز حول أن تراث بيرم لم يتم جمعه وتدوينه وفهرسته وتنظيمه فى حياته على وجه الإطلاق، وظل متناثرا بشكل عبثى تماما، رغم أنه كتب فى مجالات الزجل والأوبريت والمسرح والقصة والمقامة، ولكن هذا كله لم يقنع السادة الأفاضل فى وزارة الثقافة والإرشاد القومى بالنشر، وطبيعة بيرم المعروفة عنه، ألا يطرق بابا، ولم يكن يقف أمام مسئولين، وظل حافظا لكرامته الفترة التى عاشها. والنقطة الثانية أن السادة الأفاضل من النقاد، لم يهتموا بكتابة بيرم، وهذا كان ومازال يعنى، أن هؤلاء النقاد قسّموا الأدب إلى أدب رفيع، وأدب وضيع، ومن ثم لم يحظ أدب بيرم _فى حياته_ بأى اهتمام، بل أن المجلة الرسمية التى صدرت عام 1954، وترأس تحريرها السيد يوسف السباعى، لم تأت على سيرة بيرم من قريب أو من بعيد، وظل مستبعدا بشراسة، رغم أن المجلة الأدبية الأشهر والأهم آنذاك، وأعنى مجلة "الرسالة الجديدة"، كانت تحتفى بكثير من الأدباء الكبار والصغار - الشباب - على وجه متساو، فنشرت لطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور، وهؤلاء كانوا من كبار الأدباء، وكذلك نشرت لنجيب سرور وصلاح عبد الصيور وأحمد عبد المعطى حجازى وصبرى موسى، إلا بيرم التونسى، والذى كان شبه ممنوع، إذ أن زكريا الحجاوى، وهو أحد دعاة الأدب الشعبى كان ينشر بشكل شهرى. تكفى هذه الملاحظات العابرة، وسوف نعود إليها بشكل تفصيلى فيما بعد. اهتمام الأقربين بعد الرحيل: فى الوقت الذى امتنعت الصحافة الثقافية الرسمية آنذاك عن متابعة رحيل بيرم بالشكل اللائق، والذى يغطى مراحل حياته، ويفى التعريف النقدى والفنى بمختلف إنتاجه، إذ تابعت مجلتين عظيمتين "صباح الخير وروز اليوسف" على وجه التحديد، وهما المجلتان المرشحتان لتلك التغطية، لم تنشر روز اليوسف سوى قصيدة صلاح جاهين اليتيمة، وبعدها صمتت المجلة تماما، وأما صباح الخير، فقد سكتت تماما، ولم يحظ بيرم من محرريها وشعرائها بخبر أو فقرة فى مقال، وهذا أمر فى غاية الدهشة، مما يجعلنى أتساءل بصوت عال: لماذا؟ أما الصحف الأخرى، فلم يكتب سوى الكتاب الكبار، والذين لا يتوقع القارئ منهم تلك الكتابة، ففى صحيفة الأخبار كتب عباس محمود العقاد فقرة طويلة فى مقاله الأسبوعى، وأشاد ببيرم إشادة بالغة العذوبة!، والحقيقة هذا شئ محير، وكتب كذلك محمد زكى عبد القادر فى الجريدة ذاتها مقالا عذبا وبديعا، رغم قصره وكثافته، ولكنه أغنانا عن أقلام رؤساء التحرير القاصرة. أقول فى ظل هذا التقصير الرسمى بحق بيرم، هرع المقربون والمحبون لكى يكتبوا كتبا كاملة عن بيرم، صدرت ثلاثة كتب تباعا، كتبها شعراء مقربون من بيرم، الكتاب الأول "بيرم رائد الزجل.. دراسة تحليلية" للشاعر والزجال ميلاد واصف، وصدر فور رحيل بيرم مباشرة عام 1961، وقدّم له الكاتب محمود تيمور، والكتاب الثانى صدر بعد الأول بأسابيع قليلة، وهو كتاب "بيرم كما عرفته .. تحقيق شامل عن حياته وأثاره وإنتاجه"، كتبه محمد كامل البنا، أما الكتاب الثالث وهو كتاب ضخم وشامل من القطع الكبير، وينطوى على نشر مجموعة كبيرة من تراث بيرم الشعرى والزجلى والقصصى والمقامات، للأستاذ أحمد يوسف أحمد، صدر فى أبريل عام 1962. الناقد الذى سطا على كتابات الآخرين: وفى ذكرى رحيل الشاعر، أخرجت تلك الكتابات وغيرها من مكتبتى لاستعادة تراث هذا العظيم، وهى كتابات تنطوى على ذخيرة قوية وعظيمة من المعلومات، رغم تضارب بعضها بشكل مثير، وهناك أخطاء فادحة تحتاج إلى مراجعة وتدقيق وتحقيق، وعلى سبيل المثال فى كتاب كامل البنا، ينسب المؤلف أغنية " على قد الليل مايطوّل.."، والتى أداها ولحنها الشيخ سيد درويش، لبيرم التونسى، رغم أنها لبديع خيرى، وهكذا هناك ما يستدعى المراجعة والتحقق من صحته. وعندما فرغت من بعض ما أبغيه فى تلك الكتب، ذهبت إلى ما تجود به الكتابات الإلكترونية، فوجدت وجبة أخرى طيبة، ولفتت نظرى عناوين مثيرة لباحث اسمه "زهير ماردينى" من سوريا كان يعيش فى لبنان، وجدت له أربعة بحاث مطولة يصل حجمها إلى كتاب، وذلك فى 1 أكتوبر عام 1980، وفى مجلة اسمها "العرفان"، وعناوين الأبحاث هى : "بيرم الثائر: بيرم والحشيش، مقامات بيرم، نهاية شاعر"، عدد صفحات البحث الأول 29 صفحة، وعدد صفحات الثانى تسع صفحات، وعدد صفحات البحث الثالث 41 صفحة، أما البحث الرابع فجاء فى 57 صفحة، أى أن المجموع 136 صفحة، وهو ما دفعنى للقراءة، وكنت مقبلا بشكل كبير على القراءة، خاصة عندما قرأت فى المقدمة أن الباحث الصحفى قال بأنه التقى به شخصيا فى مقهى الفيشاوى قبل رحيله مباشرة، أى فى منتصف عام 1960، ودار بينهما حوار حميم، وأفضى له بيرم بأنه قد تعب كثيرا من الحياة، وكلمة من بيرم وكلمة من الباحث، عرض عليه الباحث أن يزور بلاد الشام، وحكى الصحفى حكاية لا توجد أى دلائل على صحتها، إذ أن بيرم وافق على السفر، هذا رغم أن بيرم يعانى من مرض الربو القاسى، والذى كان ينهش صدره، ويعرف القاصى والدانى أنه كان يذهب إلى الإذاعة مجبرا لكى يسجل الفوازير بنفسه، ولكن الماردينى يواصل، ويقول بأنه اتفق مع بيرم لإنهاء أعماله واستخراج وثيقة السفر، وبالتالى تم تأمين مبلغ 29 جنيها وذلك ثمن التذكرة، وتم إيداعها لدى الكاتب محمود العزب موسى، وبالتالى اطمأن الباحث لكل شئ، وعاد قاقلا إلى بلده بلودان فى سوريا، ولكن القدر كان قاسيا باختطاف الرجل. يستولى على رسالة لمحمد التابعى: والحقيقة أن الفأر بدأ يعبث بالحكاية، خاصة عندما بدأ الكاتب يقول بأنه سيسرد ماقاله بيرم له بالحرف، حيث إنه كان بيرم يتحدث، وهو يكتب خلفه، وعندما كنت أقرأ، كنت أشعر أن هذا الكلام قرأته من قبل، فاكتشفت أنه من كتابات بيرم نفسه حول سيرته، والأدهى من ذلك أن الكاتب يقول: ".. لقد طلبت منه مرة أن يروى لى حقيقة هذه القصة - يقصد قصة قصيدته فى الملك فؤاد - ، وكان رحمه الله يملى وأنا أسجل، قال - أى بيرم - : (لا تطلب لى أن أحدثك عن ثورة 1919، كانت ياولدى من النوع الذى لا يبقى ولا يذر، ولقد تركها الإنجليز تتأرجح وتتآكل إلى أن يخمد أوارها، ثم يعالجوها بالطرق الناعمة..." هنا عادت لى الذاكرة بقوة، وبرزت أمامى صفحات جميلة كتبها الكاتب الصحفى محمد التابعى فى كتابه "من أسرار الساسة والسياسة ..مصر ما قبل الثورة"، وهذا الكتاب صدر فى عقد الستينات قبل رحيل التابعى عام 1976، وكان التابعى قد نشر حلقاته فى مجلة آخر ساعة فى عقد الخمسينات، وكان هذا الكتاب يدور حول شخصية أحمد حسنين، وكانت زوجة حسنين السيدة لطفية هانم، تغير على زوجها من أرملة الملك الراحل فؤاد، فاستدعت قصيدة بيرم فى هجاء الملك الراحل والتشهير بأرملته، وطبعت - لطفية هانم - منها آلاف النسخ لتوزعها وتعد لها فضيحة "بجلاجل"، ومن ثم استدعى ذلك الأستاذ محمد التابعى ليوثق تلك الواقعة، أن يرسل لبيرم لكى يوضح له ما قد خفى عليه، ويضئ بعض الوقائع الغامضة، وبالتالى استجاب بيرم لسؤال التابعى، وأرسل له رسالة طويلة، بدأها بـ: "..أخى.. طلبت منى أن أحدثك عن ثورة 1919 ، كانت ياولدى ثورة من النوع الذى لا بيقى ولا يذر.."، إلى نهاية الرسالة الطويلة، والرسالة منشورة فى كتاب التابعى صفحة 86 والتى سطا عليها الباحث بشكل كامل، وزعم أن بيرم قد أملاها عليه فى المقهى، ولم يكتف ماردينى بسرقة الرسالة فحسب، بل سطا على كل الكلام الذى أورده التابعى بصدد هذه الواقعة، والتحليل الذى امتاز به التابعى فى تحليله للوضع السياسى والاجتماعى لعائلة الملك، والتى كان التابعى قريبا منها جدا. واستكملت القراءة، واكتشفت أن الباحث لم يستول على ماجاء به التابعى فقط، بل سطا على ما كتبه محمد كامل البنا حول حياة بيرم قبل ترحيله، وبالأسلوب ذاته الذى كتب به البنا، دون أى تغيير، تحت زعم أن بيرم أملاه تلك الصفحات على المقهى. هكذا يظل بيرم حتى الآن نهبا لهذا وذاك، ومن ثم فعلى المهتمين، وعلى الباحثين المتابعين، أن يعدّوا ببلوجرافيا وافية، مثل الببلوجرافيا التى صدرت عن طه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف ادريس ونجيب محفوظ، وأعتقد أن هذا الدين لا بد أن تتحمله وزارة الثقافة، وتتبناه، حيث أن الشاعر محمود بيرم التونسى يعد أحد أعمدة الثقافة المصرية، وأثرت وأثّرت كتاباته وأغانيه فى الوجدان المصرى والعربى بشكل لا يمكن أن ينمحى.














الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;