«من الصعب العثور على كلام يمكن التعبير به عن بأس هذه الأورطة البارعة وبسالتها وصبرها على الحرمان، واحتمال المشاق وحميتها فى إطلاق النيران وجلدها فى المشى، فلقد قام كل جندى من جنودها فى هذه الوقائع الثلاث بواجبه خير قيام، ويرى قائدها أن كل جنودها تستحق المدح والثناء».
الكلمات السابقة جزء من تقرير عن بطولة للجيش المصرى استمرت ثلاثة أيام بدءا من 21 يناير، مثل هذا اليوم، عام 1865، أثناء مشاركته فى «حرب المكسيك» إلى جانب القوات الفرنسية، فما قصة هذه الحرب؟ وماذا عن هذا التقرير؟
الإجابة تأتى فى كتاب «بطولة الأورطة السودانية المصرية فى حرب المكسيك» للأمير عمر طوسون، ويذكر فيها: «أساءت حكومة المكسيك معاملة كثير من رعايا فرنسا وإنجلترا وإسبانيا ونهبت أموالهم على إثر مطالبتهم لها بوفاء ما عليها لهم من الديون، فكان ذلك السبب الظاهر لهذه الحرب، ويقال إن الغرض الذى كان يسره نابليون الثالث إمبراطور فرنسا من وراء هذه الحرب هو تأسيس حكومة ملكية كاثوليكية فى المكسيك ليضمن بذلك وجود التوازن فى هذه البلاد مع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية».
عقدت حكومات الدول الثلاث النية على استخدام القوة المسلحة للحصول على مطالب رعاياها، ووجهت كل منها حملة إلى المكسيك فى سنة 1861، ولم يلبث أن دب الخلاف بين هذه الدول، فسحبت إنجلترا وإسبانيا جنودهما فى إبريل عام 1862، وقامت فرنسا وحدها بأعباء الحرب، وحسبما يصف طوسون: «تنقسم أرض المكسيك إلى جبال ووهاد، ووهادها تسمى الأراضى الحارة، وتقع على سواحلها البحرية، ومناخها تنتشر فيه الحمى الصفراء والدوسنتاريا، وإذا أقام الأوروبيون به فتكت بهم هذه الأمراض فتكا ذريعا، أما الزنوج فيمتازون بحصانة طبيعية ضد هذين المرضين، ولهذا استخدمت فرنسا فيها عساكر منهم جندتهم لهذه الحرب خاصة من مستعمراتها».
لم تكن مصر وقتئذ مستعمرة فرنسية، غير أن سعيد باشا والى مصر كان يميل نحو نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، وفقا للدكتور زين العابدين شمس الدين نجم فى كتابه «مصر فى عهدى عباس وسعيد»، مؤكدا أنه بحكم صداقة سعيد لنابليون لبى دعوته حينما طلب إليه أن يمده بقوة حربية مصرية لمساعدة الجيش الفرنسى فى هذه الحرب، وأرسل «سعيد» كتيبة من الجنود السودانيين أبحرت إلى المكسيك فى عام 1862، وكان عدد قوتها 1200 مقاتل بقيادة البكباشى جبرة الله محمد السودانى، والصاغ محمد أفندى الماس.
كانت السودان وقتئذ تحت الحكم المصرى، واشتركت القوة السودانية فى القتال من يوم 8 يناير 1863 حتى عام 1867، يؤكد «شمس الدين» أن هذه القوات أبلت بلاء حسنا، وشهد لها قائد الجيش الفرنسى «المارشال فورى» وأنها بعد جلاء القوات الفرنسية عادت إلى فرنسا، فاستعرضها الإمبراطور الفرنسى، ولما رجعت مصر عام 1867 استعرضها الخديو إسماعيل بسراى رأس التين.
يسجل «طوسون» رحلة هؤلاء الجنود ومعاركهم، ومنها معركة دارت أيام 21 و23 و24 يناير 1865، وفى تقرير عنها يؤكد قائدها أن كل الجنود يستحقون المدح والثناء، ويذكر أسماء أبلت بلاء حسنا فيها وهما: «الملازم فرج الزينى» و«الملازم أول محمد سليمان، وأصيب بستة جروح من طلقات نارية فبرهن بذلك على إقدامه»، ويذكر التقرير أسماء أربعة جنود حصلوا على وسام عسكرى وهم: جادين أحمد، محمد الحاج، إدريس نعيم، عبدالله سودان، وحصل فرج الزينى، والملازم أول محمد سليمان، على أوسمة فرنسية بالإضافة إلى آخرين.
يذكر «طوسون»، أن محمد سليمان أفندى، دخل خدمة الجيش المصرى سنة 1864، ونال وسام «شفالييه دى لا ليجيون دونور» عام 1865، وبعد رجوعه إلى مصر رقاه الخديوى إسماعيل رتبتين فصار «بكباشى»، وفى سنة 1877 كان قائد إحدى الأرط بجيش دارفور، وترقى فى تلك السنة إلى رتبة قائمقام، وعين قائدا لجيوش مديرية «دارفور»، أما فرج الزينى، فدخل خدمة الجيش المصرى عام 1852، ونال وسام «شفالييه دى لا ليجيون دونور»، فى سنة 1865، وبعد عودته إلى مصر رقاه الخديوى إسماعيل رتبتين فصار «صاغا»، وفى سنة 1881 إبان الثورة العرابية كان حائزا لرتبة قائمقام وقائدا ثانيا لأميرالاى عبدالعال أبى حشيش بك باشا، واتهمه العرابيون بالتآمر عليهم بأمر الخديوى توفيق، وأحالوه إلى مجلس عسكرى، فحكم هذا المجلس بتنزيله إلى رتبة بكباشى، غير أن الخديوى لم يوافق على هذا الحكم، وأرسله برتبته إلى مصوع ثم نقل إلى الخرطوم وهو برتبة أميرالاى، وقتل فى واقعة الخرطوم بيد دراويش المهدى فى 26 مايو سنة 1885، وترك بنتا وحيدة عمرها سنتان توفيت والدتها وتولت عمتها تربيتها.