كان الموسيقار محمد فوزى موجودا فى ركن من حديقة معهد الموسيقى، فاستمع إلى أصوات كورال بإشراف جزائرى لزجل شعبى قبلى، وعرف أنها بروفات لنشيدين لحنهما الموسيقار على إسماعيل، والموسيقار أحمد شفيق أبوعوف، فاستفزه أن يستبعد من تلحين أناشيد مماثلة، فذهب إلى إذاعة صوت العرب غاضبا، حسبما يذكر الكاتب الصحفى عبدالله السناوى فى كتابه: «أخيل جريحا، إرث جمال عبدالناصر».
كان ذهاب «فوزى» إلى «صوت العرب» مقدمة لتلحينه للنشيد الوطنى الجزائرى، ويكشف الإعلامى الراحل أحمد سعيد أسراره فى مذكراته «غير المنشورة»، وفى الفصل الخاص بالدور التاريخى لإذاعة صوت العرب مع الثورة الجزائرية، ويستعرضه «السناوى» فى كتابه.
كانت الثورة الجزائرية بقيادة أحمد بن بيلا، فى عنفوانها ضد الاستعمار الفرنسى، منذ انطلاقها المسلح فى الأول من نوفمبر 1954، وكانت مصر بقيادة عبدالناصر تقدم لها كل العون المادى والمعنوى، وكانت «صوت العرب» بقيادة أحمد سعيد ذراعها الإعلامية إلى العالم، ووفقا لـ«السناوى»: «فى مناخ عام يشجع على تجويد الأداء إبداعا وخلقا بقدر عمق التضامن مع الثورة الجزائرية فى الشارع المصرى، قدم الموسيقار محمد فوزى، نشيد تقول كلماته: قسما بالنازلات الماحقات.. والدماء الزاكيات الطاهرات.. والبنود اللامعات الخافقات.. فى الجبال الشامخات الشاهقات.. نحن ثرنا فحياة أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا».
يكشف «سعيد» أنه حين جاء «فوزى» إليه فى «صوت العرب» كان غاضبا ومترجيا ومستنكرا فى وقت واحد، قال: «هو أنا مش موسيقار وملحن معتمد بالإذاعة؟ أنا لا أشتكى ولا أطلب مقابلا، وكل ما أريده خدمة إخواتنا الثوار فى الجزائر، جربنى، أرجوك إدينى فرصة»، رد عليه أحمد سعيد: «أجربك يعنى إيه؟ أنت واحد من أشهر ملحنى ومطربى مصر، وأنا أرفض وضعك تحت التجربة».
يتذكر «سعيد»: «لاحظت دمعتين تتسللان هبوطا على وجنتيه، وشعرت بخزى من نفسى، وخطف النشيد من يدى، وكنت مشفقا عليه من كلماته الناشفة، قرأ الكلمات بصوت مسموع، وعيناه تبرقان بفرحة عفوية شاردة، قائلا: أنا له».
سأله أحمد سعيد: «يعنى إيه؟ هتلحنه؟»..رد «فوزى»: «أنا لحنته»، يعلق «سعيد» أنه تصور أن ما يراه أمامه حمق وجنون، فالكلمات التى كتبها الشاعر الجزائرى مفدى زكريا، فى سجن بربروس، داخل الزنزانة رقم 69، يوم 25 فبراير 1955، أقل ما يمكن أن توصف به برغم إيقاعها المتتابع، أن فيها بعض الغلظة فى النطق تحول دون ترديديها من الجماهير، فكلمات مثل «الزاكيات، يُصغى، رنة البارود، نغمة الرشاش، وطويناه، أشلائنا، هاماتنا، واقرؤوها»، يمكن أن تجد الصدى المطلوب».
بعد ساعة بالضبط، عاد «فوزى» بلحنه جاهزا للدخول إلى الاستديو وقيادة الكورال، يعترف «سعيد»: «اللحن برغم عزفه على أوتار العود، شدنى بعض الشىء، غير أن رقة وعذوبة صوت فوزى أفسدت علىّ لحظتها ما بدأت أتخيله للحن بآلات الأناشيد من طبول وآلات نفخ، تقبلت حجز استديو الموسيقى والغناء فى نفس اليوم، كما طلب مُصرّا، اصطحبت معى للاستديو مستشار الإذاعة للموسيقى والغناء محمد حسن الشجاعى، ليكون بعمق خبرته سندا لى فيما يمكن أن اتخذه من قرار، قناعة منى أن عذوبة صوته ستفسد اللحن، وفى ذهنى أن أدفع مستشار الإذاعة أن يطالب فوزى بإعادة تسجيله بمجموعة أصوات من منشدى الإذاعة، غير أننى فوجئت بأن فوزى نفسه قاد الفرقة الموسيقية، وترك الغناء كاملا للكورال، أدركت لحظتها أننى أمام ملحن يعى الكلمات والهدف منها، واستلهم من إيقاع النظم لحنا جماهيريا ثوريا ألهم ملايين الجزائريين».
يتذكر «سعيد» أنه سأل «الشجاعى»: «هل لديك تفسير؟»، أجاب: «النظم وتفعيله، برغم جفاف بعض كلماته، أوحى لفوزى بفكرة تبسيطه لحنيا، فاختار إيقاعا سلسا لا يتطلب لأدائه أصواتا متميزة، ما جعل حفظه كنشيد سهلا وسريعا، ومن جميع الناس مهما كانت أصواتهم وإمكاناتها، وهذه مهمة أى موسيقى عندما يتصدى لتلحين نشيد جماهيرى أو نغم شعبى».
يعلق «السناوى»: «كل اعتراض سجله أحمد سعيد له أساس حقيقى، لكنها عبقرية فوزى، والتى منحت النشيد خلوده»، وخلال أربع ساعات يوم 11 فبراير، مثل هذا اليوم، 1957، تم تسجيل النشيد وأذيع، وتردد على كل لسان فى الجزائر من الطفل إلى الكهل، ومن المرأة إلى الرجل، أكثر من أى نشيد آخر أنتجته صوت العرب، يذكر «السناوى»، أن الرئيس الجزائرى أحمد بن بيلا حين استقبل الفنانة هدى سلطان شقيقة «فوزى» فى القصر الجمهورى، قال لها: «إن الجزائر لن تتذكر قادة الثورة إلا فى عيدى الثورة والاستقلال، أما محمد فوزى فسيعيش بلحنه مع كل إذاعة له فى كل يوم».