خمس سنوات بالتمام منذ اختفاء جوليو ريجينى، راجت خلالها رواية أراد صانعوها أن تكون ضد مصر، رغم ما أسفرت عنه الأيام والوقائع والمعلومات من تفاصيل! لكن فى مقابل تلك الدراما المصنوعة، كانت هناك دائما رواية أكثر اتساقا وقربا من المنطق والواقع، ادّعى رافضوها أنها تخص الدولة المصرية وأجهزتها الأمنية فقط، مُتجاهلين أنها حاضرة بقوة حتى فى الفضاء الأوروبى نفسه!
الحقيقة التى استماتت أطراف عديدة من أجل طمسها، باتت أكثر وضوحا لدى فريق من الأوروبيين، والإيطاليين بوجه خاص، من واقع ما حملته السنوات الخمس الماضية من إشارات وإرشادات ومواقف تُثير الشكوك من جانب بعض الحكومات والأجهزة ومنصات الإعلام على الجانب الآخر من المتوسط. وبين وقت وآخر كان فضاء "الميديا" نفسه يحمل رسائل كاشفة، وردودا موضوعية وفاضحة لانحيازات صناع "أسطورة ريجينى"، وأحدث تلك الإطلالات مقال بالغ الأهمية لطبيب وناشط سياسى إيطالى معروف، أطلق رصاصة مضيئة على قلب الحكاية التى جاهد كُتابها طويلا من أجل أن تكون غامضة ومحفوفة بالشك والأقاويل والأغراض المضمرة. وهو جانب عظيم الأهمية من الرواية، ليس لأنه ينقض اللعبة المصنوعة بالخارج من داخلها، ولكن لأنه يُطلق صافرة أولى تُنبئ بانتهاء مباراة طويلة من الألاعيب، امتدت فصولها من روما إلى لندن والولايات المتحدة وغيرها، وخطط أصحابها لأن تكون نهايتها فى القاهرة، لكن أشواط المباراة الطويلة لم تسمح لهم بإنهاء الصراع على الوجه الذى أرادوه!
اتهام إيطالى صريح لمسؤولى روما ولندن
فى مقال حمل عنوان "الحقيقة من أجل ريجينى"، ونشره موقع "Come Don Chisciotte" المعروف، كتب ليوبولد سالمازو، وهو طبيب وكاتب سياسى درس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين أوروبا والعالم، وله مقالات وكتب فى الموضوعات السياسية، مُحللا تفاصيل الرواية الرائجة عن قضية جوليو ريجينى على مدى خمس سنوات، ومشيرا بأصابع الاتهام إلى أطراف عديدة، ليس أولها جامعة كامبريدج الإنجليزية وأستاذتها ذات الميول الإخوانية مها عزام، أو المكتب السادس الإنجليزى (استخبارات MI6)، ولا حتى بعض الدوائر الأمنية والاستخباراتية على الجانب الآخر من المحيط، فى الولايات المتحدة تحديدا، وإنما وصل بالشكوك إلى قلب روما، منتقدا ممارسات الساسة والإعلام والادعاء الإيطالى ومن تناوبوا عليه طوال تلك السنوات!
يستهل "سالمازو" مقاله بعبارة بالغة الوضوح والتشويق، قائلا: "بعد فشل عملية ريجينى ينتهى الحذر الدبلوماسى"، وكأنه يُقدم لآخر حلقة من الملف الطويل، مع إعلان النيابة العامة المصرية انتهاء القضية وأنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية. ومن تلك العبارة الكاشفة يسأل: "لماذا تأخر القضاء والحكومة المصرية فى الكشف السريع والصريح عن تفاصيل عملية ريجينى التى نفذها الإنجليز والإيطاليون، وتلوثت بها أيدى ووجوه ومثاليات العناصر السياسية والإعلامية والاجتماعية من مستغلى الأحداث عبر الأطلنطى؟". هكذا وبمنتهى الوضوح يفجر الطبيب والكاتب الإيطالى مفاجأة صادمة، باتهام مباشر للمسؤولين والأجهزة الأمنية فى روما ولندن بالتورط فى تخطيط وتنفيذ عملية قتل الباحث جوليو ريجينى، لصالح أغراض سياسية تخص البلدين والضفة الأخرى للأطلنطى.
غموض صنعته الأغراض المشبوهة
يُفسر الكاتب غموض المشهد الأخير فى حياة ريجينى، وما صاحب الأمر من ضجة مُفتعلة من وجهة نظره، بأن غرضها الوحيد كان "نسف العلاقات القوية بين مصر وإيطاليا، والمصالح الاقتصادية المرتبطة بتلك العلاقات"، مشددا على أن الحقيقة تدعمها أدلة عديدة كان من شأنها أن "تكشف مسؤولية دولتين صديقتين، المملكة المتحدة وإيطاليا، ما يُهدد بحدوث خلاف بينهما قد يؤدى إلى القطيعة"، لكن بسبب ممارسات الحكومات والإعلام بالخارج، انتهى الحذر الدبلوماسى وكشفت الجهات المصرية عن الموقف الواقعى بوضوح، بعدما فاض الكيل من تلك الممارسات الخارجية.
يرى ليوبولدو سالمازو أن ثورة 30 يونيو 2013 واحدة من مُحركات ما جرى فى قضية "ريجينى"، فبحسب رؤيته أنهت تلك الثورة الشعبية التى جاءت بعد عام من قمع المجتمع على أيدى الإخوان نقطة ارتكاز أساسية لمخططات "الاستعماريون الجدد"، مع الإطاحة بالجماعة التى "ساعد البريطانيون على إنشائها، وناهضت باسمهم فكرة القومية العربية"، لتقود تلك الهزيمة المدوية فى أكبر البلدان العربية موجة حقد على النظام الجديد ومؤسساته داخل دوائر أوربا المرتبطة بلندن، بدت واضحة على الصعيد الإيطالى فى مدونات صحيفة "il manifesto" التى أدانت ثورة المصريين، وهى نفسها التى نشطت لترويج الرواية المصنوعة عن ريجينى، بحسب رأى الكاتب.
يربط الكاتب بين بزوغ قوة جديدة من رحم الثورة الشعبية فى مصر، ونشاط الإرهاب المرتبط بالإخوان وأذرعها الممتدة حتى نظام أردوغان فى تركيا، مشيرا إلى داعش والقاعدة وبوكو حرام وغيرها من الأسماء، وما حصلت عليه من دعم لا يختلف عن النشاط السياسى المُعلن فى الاستهداف عبر القضايا والموضوعات المصنوعة أو الموجهة مثل قضية ريجينى، ويشير "سالمازو" بوضوح إلى أن تلك السياسة أصابت مصر بضربات إرهابية عدة، طالت المدنيين والعسكريين ورجال الشرطة، وتجاهلتها وسائل الإعلام الأوروبية، خاصة التى بالغت لاحقا فى التجارة بواقعة ريجينى قبل اكتشاف تفاصيلها.
من هذا المدخل، ينطلق الكاتب الإيطالى متتبعا مسار "ريجينى" منذ البداية. إذ يرى أن "الاستعمار الجديد الذى استغل الربيع العربى وغيره من الأحداث، لم يكن ليفوت الفرصة دوت تفعيل سلاح الجاسوسية وإثارة الاضطرابات"، متابعا مقاله بالقول: "فى هذا الإطار يجب وضع قضية ريجينى بأكملها، التى بدأت فى أوكار المكتب السادس بكامبريدج، وتابعتها الهيئات صاحبة الخبرة بالواقع المحلى المصرى، مثل الجامعة الأمريكية فى مصر والمنظمات غير الحكومية المحلية، إلى جانب بعض المؤسسات التى تتخفى خلفها المخابرات المركزية الأمريكية مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة الوقف الوطنى للديمقراطية Ned ومنظمة هيومان رايتس ووتش".
يستشعر "سالمازو" الأسى وهو يتذكر رحلة القضية بين التوظيف السياسى والموضوعية، وكيف ضاعت محاولات التحليل والفهم تحت موجة كاسحة صُنعت لأغراض تخص أصحابها فقط، قائلا: "يجب أن أقول إننى شعرت بالوحدة طوال تلك السنوات، وأنا أتحدث عن قضية ريجينى ضد تسونامى الزيف والكذب الذى انتهجته وسائل الإعلام والسياسة فى نغمة موحدة؛ لكن روايتى التى قامت دائما على حقائق ووقائع منطقية لم تجد أبدا من يكذبها، وقد فضل الجميع الصمت عن مهاجمتى وإثارة الغبار من أسفل البساط".
مهمة الإطاحة بإيطاليا من حقوق الغاز
يرى ليوبولدو سالمازو أن قضية ريجينى بكاملها صُنعت من أجل إعادة تخطيط منابع الطاقة فى المتوسط، أو بمعنى مباشر من أجل طرد إيطاليا من مناطق الثروات المصرية وحرمانها من فرص التعاون الكبيرة فى هذا المجال، وبدأ الأمر بانتقاء شخصية جوليو ريجينى، ثم صياغة مهمة تُحقق هذا الهدف، لكنها صيغت على عجل إلى حد افتضاحها سريعا، فكانت الخطوة الثانية الخلاص من "عميل الميدان" لتكتمل القصة فى المسار نفسه!
القصة حسب تسلسل المقال، أن رجينيى الطالب فى جامعة كامبريدج "تلقى منها مهمة يجب تنفيذها فى القاهرة، لم يُكشف عنها مطلقا للمحققين، كان ذلك فى 25 يناير، وعُثر على جثته خارج العاصمة يوم 3 فبراير، بالتزامن مع لقاء وفد إيطالى اقتصادى رفيع المستوى بنظرائه المصريين والرئيس السيسى، للاتفاق وتوقيع مجموعة من الاتفاقيات التجارية المهمة منها حقل ظهر أكبر حقول الغاز بالمتوسط، وجرى وقتها إلغاء اللقاء بعد وصول نبأ العثور على جثة ريجينى، ما تسبب فى خسائر كبيرة للطرفين، مع مزايا كبيرة لمنافسين آخرين".
يُتابع المقال رؤيته بتفنيد رواية الجانب الآخر، قائلا: "المنطق يقول إن التعذيب والقتل ثم ترك الضحية فى الطريق مفاخرة حمقاء، وهو أمر لا ينطبق على النظام المصرى، والأهم أنه بعد خروج إيطاليا من الصورة بفضل مسؤوليها وإعلامها الساعى خلف مصالح شخصية، فُتح باب سوق الطاقة وحقول الغاز أمام آخرين"!
يقطع الكاتب الإيطالى فى مقاله بأن "تدريب ريجينى بدأ بالولايات المتحدة، فى مؤسسات مرتبطة بالمخابرات، ثم استمر قبل فترة قصيرة من توجهه إلى مصر فى شركة اكسفورد أنالتيكا، وهى شركة تجسس متعددة الجنسيات، يقودها 3 من ذوى الخبرة: جون نيجروبونتى قائد فرق الموت فى نيكاراجوا والعراق، وكولين مككول الرئيس السابق للمكتب السادس البريطانى، وديفيد يونج رئيس فرقة عملية "ووترجيت" للرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون، وكانت قاعدتها العملية فى مصر الجامعة الأمريكية، التى كانت من بدايتها، وكما هو حال الجامعة الأمريكية فى بيروت، نقطة تجمع لأشخاص قريبين من المخابرات الغربية"، بحسب رأى كاتب المقال.
ضريبة الفشل.. كلفوه ثم قتلوه
كان مدخل جوليو ريجينى للمشهد المصرى من خلال "المشروعات الملونة"، ويعتبر ليوبولدو سالمازو أن الرواية الرائجة غربيا لا تُعجب إلا عشاق الخطب الرنانة والمنحازين للإنجليز والأمريكان، لا سيما أنهم "يتحدثون عن ريجينى الذى كان يجوب شوارع القاهرة بحثا عن الاتصال بمعارضين للحكومة، فيلتقى رئيس نقابة تضم الاقتصاد غير الرسمى بأكمله، وعندما طلب منه الأخير، واسمه محمد عبد الله، المساعدة فى علاج والدته المريضة بالسرطان، رفض ريجينى الطلب لكن عرض عليه 10 آلاف دولار من أجل مشروع، معتقدا أنه يريد إسقاط الحكومة ويُمكن أن يتصرف ضد مصلحة المؤسسات، ويُعد هذا فى أية دولة تجسسا وتخريبا، لكن يدرك عبدالله أن هذا العمل يستهدف هدم استقرار الدولة، فيُبلغ الأمن".
يبدأ المقال افتراضاته المنطقية من النقطة السابقة، متابعا: "من أرسلوا ريجينى أدركوا أن اللعبة اكتُشفت والعملية فشلت، وأن المبعوث أصبح ورقة محروقة. ويدخل ضمن أساسيات العمل التقليدية لأى جهاز مخابرات، التخلص من عميل ميدانى بات يمثل خطورة مضادة. لم يؤخذ ذلك فى اعتبار القضاة الإيطاليين أو وسائل الإعلام التى تطلق سهام الاتهامات الحارقة، ويتزعمها جوزيبي جوليتى رئيس الاتحاد الوطنى للصحافة، الذى ظهر فى مئات الوقفات التى رعتها منظمة العفو لصالح ريجينى، لكنه لم يظهر فى أية وقفة لصالح جوليان أسانج، وأيضا لويجى مانكونى الذي لا يتخلف أبدا عندما يتعلق الأمر بمساندة الأمور السياسية المتدنية، وروبرتو فيكو الذى وصل إلى درجة المطالبة العبثية بقطع العلاقات البرلمانية".
يُثير "سالمازو" الشكوك مجددا بشأن الإخوانية مها عزام، مستغربا من أن النيابة الإيطالية أجرت "حوارا خاطفا مع مشرفة ريجينى فى جامعة كامبريدج، ثم انتهت المسألة عند هذا الحد"، معتبرا أن الاتجاه إلى فرضية تورط 4 عناصر أمنية مصرية من أجل إنهاء القضية، انطوى على سطحية وتلفيق، لا سيما مع تجاهل التفاصيل والشكوك المرتبطة برحلة ريجينى وعلاقاته فى كامبريدج، أو على الجانب الآخر من المحيط، وأن القصة بكاملها تسير فى اتجاه شيطنة الدولة المصرية وحكومتها، مستطردا: "عملية شيطنة الحكام فى الغرب تجعلنى لا أؤمن بحقوق الإنسان عندما يتشدق بها أصحاب التفكير الأوحد. أنا أعرف أن ركائز الاقتصاد المصرى تحسنت كثيرا مقارنة بالماضى، وأن التفاوت الاجتماعى أصبح أقل حدة، وهناك بنية تحتية مفيدة للمجتمع، ومصر تساند الأشخاص المناسبين فى سوريا وليبيا".
يعتبر ليوبولدو سالمازو أن والدة ريجينى لعبت دورا فى إخفاء القصة الحقيقية، أو على الأقل خدمة أهداف أصحاب القصة المشبوهة، حتى لو من دون قصد، مختتما مقاله بسؤال صريح لها ويُثير مزيدا من الشكوك: "لماذا يا سيدتى العزيزة أخفيتِ الكمبيوتر الخاص بابنك من مسكنه فى القاهرة، ومنعت المحققين أصحاب الحق القانونى فى الحصول عليه؟ ما الهدف؟ وألا يُمكن أن يمثل الكمبيوتر دليلا مهما؟"، وبعد كل تلك التساؤلات والمعلومات والإضاءات المنطقية، يترك سالمازو جملته النهائية وكأنه يُدين ممارسات بعض المسؤولين ووسائل الإعلام فى روما ولندن باستفسار يحمل معنى الاستنكار والسخرية" "هل نريد الحقيقة أم لا؟!".