كانت تبعات جائحة الكورونا على الاقتصاد العالمى شديدة القسوة، الأمر الذى حذا بالعديد من الدول على اتخاذ سياسات تحفيزية بغرض التخفيف من حدة الآثار السلبية على مواطنيها واقتصاداتها بشكل عام.
طبع الدولار بشكل غير مسبوق
فمثلا قامت الولايات المتحدة الأمركية باعتبارها تمثل أكبر قوة اقتصادية فى العالم باتخاذ سياسات تحفيزية غير مسبوقة وبشكل أوسع من تلك المتخذة إبان الأزمة المالية العالمية 2008، حيث لجأت لطبع المزيد من الدولار بغرض زيادة المعروض النقدى بالأسواق Money Supply، وهو ذات النهج الذى انتهجه الاتحاد الأوروبى والعديد من الدول الأخرى أو معظم دول العالم بما فيها الدول العربية.
المشكلة الأكبر هي أن كل هذه الأموال التى تمت طباعتها بشكل كبير لم تدخل في مشروعات إنتاجية، وإنما تم توجيهها كمساعدات نقدية للأفراد المتضررين من جائحة كرونا أو الشركات المتضررة أيضا، أو توجهت للأستثمار غير المباشر في البورصات العالمية، ومعظم هذه الأموال يحتفظ حاملوها بمعظمها حاليا ولم يتم انفاقه، أو وضعه في أصول استثمارية، وبمجرد أن تنتهى الجائحة، ستخرج هذه الأموال في محاولة للعودة للعمل الحقيقي، وهو ما سيحدث موجة عالية من التضخم وارتفاع أسعار السلع في العالم كله، وهو ما سيجبر البنوك المركزية على رفع الفائدة، حتى أن بعض الخبراء توقعوا أن تصل الفائدة على الدولار إلى 20%.
وقال إيهاب سعيد عضو مجلس إدارة البورصة المصرية إنه كان لتلك السياسات أثر واضح فى تخفيف حدة الآثار الاقتصادية الناجمة عن انتشار هذا الوباء، ولكن ما يقلق الكثيرين جراء تلك السياسات التحفيزية غير المسبوقة، هى تلك الآثار التى قد تنجم عنها بعد زوال هذه الجائحة، ومدى قدرة الاقتصادات فى العودة لطبيعتها سيما وأن أغلبها قد شهد انكماشا رغم كافة هذه الإجراءات.
إيهاب سعيد خلال ندوة سابقة بانفراد
فى الوقت الذى استفادت فيه كافة الأسواق المالية على مستوى العالم من تلك السياسات التحفيزية، خاصة مع إجراءات الحظر الشامل الذى انتهجته معظم الدول، حيث ارتفع الطلب على أسواق المال بصفة عامة، فشاهدنا مؤشر نيكى اليابانى وهو يتجاوز قمته الرئيسية لأول مرة منذ 30 عاما وكذلك مؤشرات السوق الأمريكى التى واصلت تحقيق مستويات قياسية غير مسبوقة، وكذا صعود قياسى لسوق العملات الرقمية وعلى رأسها عملة "البيتكوين" التى اقتربت من مستوى 60 ألف دولار، رغم التراجعات التصحيحية الحالية.
ومما لا شك فيه أن ارتفاع مستوى عرض النقود بما له من آثار إيجابية على أسواق المال بصفة عامة، إلا أنه سيؤدى فى النهاية إلى مستويات قياسية فى الأسعار لا تتماشى مع واقع الشركات الفعلى.
ومع عودة الحياة لطبيعتها وإلغاء إجراءات الحظر، ستبدأ تلك السيولة فى الخروج تدريجيا من أسواق المال والعودة للاقتصاد الحقيقى لتشكل بذلك قوة شرائية ضخمة مع ثبات فى المعروض السلعى، فتكون نتيجته الحتمية ارتفاعات قياسية فى معدلات التضخم، وهو ما سيكون التحدى الأكبر لصانعى السياسات المالية والنقدية بالاقتصادات الكبرى.
التضخم بدأ بالفعل فى الارتفاع بأمريكا إلى 2%
وقد بدأ فعليا يلوح فى الأفق ارتفاع مستويات التضخم بالولايات المتحدة الأمريكية لتقترب من المستويات المستهدفة عند 2%، ومن المرجح أن تتجاوز تلك النسب بشكل أكبر خلال الشهور القليله القادمة مع عودة الحياة لطبيعتها كما سبق وأشرنا، وهو ما قد يجبر الفيدرالى على تغيير سياساته تجاه أسعار الفائدة، والذى إن حدث فسيكون بمثابة ضربة موجعة إضافية لأسواق المال العالمية نظرا لارتباطها الوثيق بأسعار الفائدة والسياسات المالية والنقدية بصفة عامة.
فخلال الدورة الاقتصادية تميل أسواق الأسهم للتفوق على أسواق أخرى حسب السياسات المتخذه خلال الدورة نفسها، فمع بداية أى دورة اقتصادية يقوم صانعو السياسات المالية والنقدية باتخاذ سياسات توسعية بغرض إخراج الاقتصاد من نفق الركود مثل خفض أسعار الفائدة وشراء السندات وخفض الاحتياطات المطلوبة وغيرها من الإجراءات المعروفة، وبعدها تبدأ الأسواق فى التفاعل إيجابا مع زيادة المعروض النقدى وتراجع تكلفة التمويل لتستفيد الشركات عبر التوسع فى انشطتها وتحقيق نمو فى ربحيتها يعود بالإيجاب على أسعار أسهمها.
وعلى الجانب الآخر تبدأ أسواق أخرى كسوق السندات فى التراجع بسبب ضعف العائد الناتج من خفض أسعار الفائدة، وفى تلك المرحلة تكون بعض الأسهم الحساسة لأسعار الفائدة هى الأسرع فى الاستجابة عن غيرها، فنجد مثلا أسهم كالإسكان والخدمات والإنفاق الاستهلاكى تميل للتفوق على نظيرتها من القطاعات الأخرى خلال تلك المرحلة.
ومع التقدم فى الدورة الاقتصادية وزيادة حجم المعروض النقدى جراء السياسات التحفيزية المتخذه، تبدأ معدلات التضخم فى الارتفاع، وفى تلك المرحلة تتفوق بعض الأسهم ذات الانفاق الرأسمالى وكثيفة استهلاك الطاقة كالحديد والألمونيوم والأسمدة وغيرها من التفوق على نظيرتها من القطاعات الأخرى كأسهم الخدمات والإسكان والانفاق الاستهلاكى التى تبدأ فى تكوين قممها بتلك المرحلة.
ودائما مع تكون عنوان نهايات الدورة الاقتصادية هى ارتفاع معدلات التضخم بشكل قياسى، وكنتيجة طبيعية لتراجع القوة الشرائية للنقود، يتجه المستثمرون إلى مخزن القيمة الأشهر على مستوى العالم وهو الذهب وما يتبعه من المواد الأولية.
وهنا تبدأ البنوك المركزية فى التدخل مجدداً لرفع أسعار الفائدة وتغيير سياساتها التوسعية إلى سياسات تضيقية لكبح جماح التضخم.
ونستنتج من تلك المبادئ الأساسية للدورة الاقتصادية على الأسواق المالية، أن التضخم ذاته ليس شرطا أن يكون سلبيا فى كل الأحوال، وحدوثه ليس شرطا كذلك على انهيار أسواق الأسهم، وإنما ما يؤثر فى الأسواق هو سياسات الدول المالية والنقدية فى التعامل مع هذا التضخم.
البنوك المركزية ستلجأ لرفع الفائدة
ويمكن الخلاص إلى أن الفترة القادمة قد تشهد تغييرا فى السياسات النقدية للبنوك المركزية حول العالم وعلى رأسها الفيدرالى الأمريكى تجاه أسعار الفائدة لكبح معدلات التضخم المتوقعة جراء السياسات التحفيزية غير المسبوقة التى اتخذتها لخفض الآثار السلبية للجائحة، كما سبق وأوضحنا تفصيلاً، بما قد يعنى نهاية للاتجاه الصاعد لأسواق المال على مستوى العالم مرحليا وتحول فى سلوك المستثمرين تجاه الذهب كمرحلة أولى وكملاذ آمن من التضخم المتوقع، ثم السندات وأدوات الدخل الثابت مع بداية اتجاه أسعار الفائدة نحو الارتفاع فيما يعرف بال Flying to Safety .
وما يدعم ذلك تقرير نشره موقع ماركيت ووتش العالمي يتحدث عن تأثير التضخم العالمي على أسواق المالي، وبوادر موجة ارتفاع جنوني في التضخم العالمي خصوا على الدولار وهو ما سينتج عنه ارتفاعا كبيرا في سعر الفائدة على الدولار وبدأت هذه الموجة بالفعل.
وقال التقرير إنه إذا كان التضخم يمثل تهديدًا لسوق الأسهم، فيجب أن نكون خائفين، وذلك لأن توقعات التضخم ارتفعت بشكل كبير في الأسابيع الأخيرة، حيث كان يراهم يراهن سوق السندات حاليًا على أن معدل التضخم سوف يكون متوسطًا خلال العقد المقبل لكنه أصبح الآن أعلى مما كان عليه في خمس سنوات.
وكانت التوقعات تقول إن التضخم المتوقع لعشر سنوات ببلغ 0.50٪ فقط في مارس الماضي ؛ لكنه في الأسبوع الماضي وصل إلى 2.24٪.
التضخم لا يهدد سوق المال في كل الأحوال
وأوضح التقرير أنه في الحقيقة، لا يعتبر التضخم تهديدًا لسوق الأسهم كما يعتقد معظم المستثمرين، إذا استمر التضخم في الارتفاع في الأشهر المقبلة وكان رد فعل المستثمرين هو التخلص من الأسهم ، فقد ترغب في اعتباره فرصة شراء.
هذه هي الاستنتاجات التي وصل التقرير إليها بعد إجراء مقابلة مع ريتشارد وار، أستاذ المالية في جامعة ولاية كارولينا الشمالية، شارك Warr في تأليف دراسة عام 2002 في مجلة التحليل المالي والكمي والتي وجدت أن الأسهم هي في الواقع وسيلة تحوط جيدة طويلة الأجل ضد التضخم، كان مؤلفه المشارك أستاذ التمويل بجامعة فلوريدا جاي ريتر.
وأوضح "وار" أن الأسهم هي تحوط لأن التضخم يؤثر على تقييم الأسهم بطريقتين تعوض كل منهما الأخرى إلى حد كبير:
* يعني ارتفاع التضخم أنه يجب خصم الأرباح الاسمية المستقبلية بمعدل أعلى عند حساب قيمتها الحالية.
* الشركات قادرة على تحصيل رسوم أكثر عندما يكون التضخم أعلى، وبسبب قوة التسعير هذه ، فإن أرباحهم الاسمية في السنوات المقبلة ستكون أعلى مما كانت ستصبح عليه في غير ذلك.
وقال "وار" إن المستثمرين يركزون عادة على أول نتيجتين للتضخم، أي أنهم (ضمنيًا على الأقل) يدركون أن التضخم يقلل من قيمة الأرباح الاسمية المستقبلية، لكنهم يغفلون أن هذه الأرباح الاسمية ستكون أعلى في حد ذاتها، يرجع هذا الرأي غير المتوازن إلى سمة يطلق عليها الاقتصاديون "وهم التضخم".
ويعمل هذا الوهم على الاستفادة من الأسهم عندما ينخفض التضخم، عندما يكون الأمر كذلك، يستنبط المستثمرون في المستقبل نمو الأرباح الاسمية المرتفع بشكل مصطنع لفترات التضخم المرتفعة السابقة، والنتيجة هي تقييمات عالية بشكل غير معقول.
عندما يبدأ التضخم في الارتفاع، على النقيض من ذلك، يرتكب المستثمرون الخطأ المعاكس: فهم يستنبطون في المستقبل ما أنتجته شركات نمو الأرباح المنخفضة خلال فترة التضخم المنخفضة السابقة، وهذا يقودهم إلى استنتاج أن تقييمات الأسهم يجب أن تنخفض مع ارتفاع التضخم.