ارتدت الفنانة منيرة المهدية ملاءة لف سوداء، وعلى وجهها برقعا، ولبست «شبشب» حتى تبدو كبنات البلد، وصحبت معها الممثل محمد بهجت، وذهبت إلى مسرح رمسيس، حيث كانت أم كلثوم تغنى، واشترت تذكرة فى أعلى التياترو، وهى أرخص مقعد فى المسرح، حسبما يذكر الكاتب الصحفى مصطفى أمين، التى تنقل عنه رتيبة الحفنى فى كتابها «سلطانة الطرب.. منيرة المهدية».
كانت «منيرة» تتربع على عرش الغناء وقتئذ «عام 1927»، وأم كلثوم تزحف إليه بإرادة وتعلم وإمكانيات صوت نادر.. يذكر «أمين»: «كانت الناس تتحدث عن الصوت الجديد القوى الجميل المعبر فى أدائه، صوت أم كلثوم، فأرادت «منيرة» أن تستمع إليها، واهتدت إلى فكرة التخفى فى شخصية فتاة بنت بلد، وجلست تسمع أم كلثوم، والجمهور يهلل، ورأت سيطرتها العجيبة على المستمعين وهى تتحكم فيهم بصوتها الخلاب، فتركت المسرح غاضبة».
عادت إلى عوامتها فى النيل ساخطة، واهتدت إلى حرب الشائعات كفكرة شيطانية لهدم هذه الفنانة الجديدة، ولأن الصحافة كانت الأداة المثلى فى هذا الأمر وقتئذ، استعانت بها مستخدمة سلاح الغواية كأخبث وسيلة يمكن أن تلجأ إليها امرأة.. يذكر «أمين»: كانت مجلة المسرح مجلة فنية واسعة الانتشار وصاحبها الشاب «محمد عبدالمجيد حلمى» الناقد الفنى لجريدة «كوكب الشرق»، وكان ناقدا عنيفا لاذعا، له قلم يشبه الحربة، ولم يسبق أن صادقته فى حياته مغامرات فى العشق والغرام، وأرادت منيرة أن توقع هذا الصعيدى فى غرامها حتى تتخذه سلاحا ضد غريمتها أم كلثوم.
دعته إلى الغداء فى عوامتها، وخلال ساعة واحدة استطاعت أن تدعه يبادلها عبارات العشق، وخرج من عندها مقتنعا بأنه أصبح حبيبها، وأصبحت مجلة «المسرح» لسان حال منيرة، تهاجم فى كل عدد أم كلثوم.. قالت يوم 17 يناير 1927: «أم كلثوم لها مئات العشاق، ولا أدرى ماذا يحبون فيها؟.. فهى ليست على شىء من الجمال، ولا خفة الروح ولا سلامة الطبع».. وفى 31 يناير من نفس السنة كتبت: «إن أم كلثوم نجمها قد غرب».
يستكمل مصطفى أمين، القصة فى مقال له بعنوان «المطربة التى قتلت صحفيا، والصحفى الذى دفن المطربة» فى «أخبار اليوم، 18 يناير، 1986»، قائلا: «انشغلت منيرة المهدية بإخراج رواية كليوباترا مع محمد عبدالوهاب، ورأت أن عبدالمجيد حلمى لم يهدم أم كلثوم كما توقعت، على الرغم من هجومه عليها كل أسبوع ولعنته لها، وتحذر الناس من الذهاب إلى المسرح الذى تغنى فيه، لأنها ستخطف الزوج من زوجته».
دخل الكاتب الصحفى فكرى أباظة، على خط المعركة بمقال له فى الأهرام عنوانه «معجزة الموسم» قال فيه: «منيرة المهدية وعبدالوهاب يغردان تغريد البلابل، والجمهور يضج ضجيج الإعجاب العنيف بعد أن أخذت منه الدهشة كل مأخذ، واستولى عليه ذهول الخاشع أمام السحر الحلال، مجرم فى حق نفسه وحق الفن من لا يشهد رواية كليوباترا فى الحال، مجرم فى حق النبوغ والعبقرية من لا يبادر بإذاعة خبر هذا النصر الحاسم».. أبدت منيرة إعجابها بالمقال، وغار «حلمى»، فتساءل فى مجلته: «كم تقاضى فكرى أباظة ثمنا لهذه الكلمة؟».
ورغم ما فعله «أباظة» فإن منيرة تعاملت معه باستعلاء، فبعد نجاح الفصل الأول من «كليوباترا» دخل الناس إلى المسرح يهنئونها، ودخل «أباظة» وظل واقفا ينتظرها وهى تحيى هذا وتبتسم لهذا، وهذا ينحنى لها، وذاك يقبل يدها اليمنى، حتى جاء الدور عليه ومرت منيرة بكل عظمة، فانحنى حتى كاد يمس الأرض بجبهته، ومدت إليه يدها فقبلها، دون كلمة منها أو ابتسامة.
اشتعلت نار الغيرة فى قلب «حلمى» فكتب يوم 28 فبراير، مثل هذا اليوم، 1927، يقول لمنافسه فكرى أباظة: «هى امرأة واحدة نحبها نحن الاثنين يا صديقى، أهو القدر يعبث بنا، أم نحن نعبث به، أم هى تلعب بنا جميعا، قلت لى فى مقابلتنا الأخيرة إنها باحت لك بغرامها، وإنها تحبك من دونى ولولا أنها تخشانى لنفرت منى وابتعدت عنى، ألم تذكر أنها قالت ذلك؟ وفر عليك جهدك، فقد سمعت منها هذه الألفاظ عنك، إذن هى تعبث بنا جميعا.. أحدنا تخشاه، والآخر تجد مصلحتها فى استرضائه، ومع ذلك فأنت تعبدها، وتطمع فيها، وتغار عليها، أما أنا فأحبها بلا عبادة ولا طمع ولاغيره».
استمر «حلمى» فى مقالاته مناشدا حبيبته العودة إليه، دون استجابة منها حتى سقط صريع الحمى، وأصبح يهذى، باسمها وحدها، لكن قلبها لم يرق له، واغتاظ محررو مجلة المسرح فأصدروا عددا وصورتها على غلافه فى شكل قاتلة، وفى يدها مسدس وكتبوا تحتها «السيدة منيرة المهدية كما تريد أن تكون»، ثم سافر «حلمى» إلى بلده أسيوط ومات فيها.