كانت مذبحة المماليك تتواصل فى القلعة، بتدبير وتخطيط محمد على باشا، وقبل أن تبدأ كانت الجماهير تحتشد فى الشوارع المعدة لسير موكب الجنود الذين سيخرجون من «القلعة» استعدادا لرحيلهم إلى بلاد الحجاز، حسبما نادى المنادى فى اليوم السابق لوقوعها، «راجع، ذات يوم، 2 مارس 2020».
كان الناس مبتهجين، بوصف عبدالرحمن الرافعى، فى كتابه «عصر محمد على»، مشيرا إلى أن طليعة الموكب مرت بين جموع المتفرجين، وأخذ الناس يترقبون بلهف مرور الصفوف التى تليها، ثم انقطع تلاحق الصفوف، وفيما هم ينتظرون قدوم الصفوف المتأخرة سمع المحتشدون فى ميدان الرميلة أسفل القلعة، صوت الرصاص يدوى فى الفضاء، بعد أن أقفل باب العزب، فسرى الذعر إلى الناس، إذ وصل خبر المذبحة إلى الجماهير القريبة من القلعة، وصاح صائح: «قتل شاهين بك»، وسرعان ما ذاع الخبر بسرعة البرق إلى مختلف الأنحاء، فتفرقت الجماهير وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الناس إلى منازلهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة».
لم ينته الأمر عند خلو الشوارع والطرقات من المارة، وإنما أعقب المذبحة قيام جنود محمد على بعمليات ملاحقة ونهب، حسبما يذكر المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى، الذى كان معاصرا للحدث، قائلا فى الجزء السابع من موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: «عندما تحقق العسكر من حصول الواقعة وقتل الأمراء، انبثوا كالجراد المنتشر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم، طالبين النهب والغنيمة، فولجوها بغتة ونهبوها نهبا ذريعا، وهتكوا الحرائر والحريم، وسحبوا النساء والجوارى والخوندات والستات، وسلبوا ما عليهن من الحلى والجواهر والثياب، وأظهروا الكامن فى نفوسهم، ولم يجدوا مانعا ولا رادعا، وبعضهم قبض على يد امرأة ليأخذ منها السوار، فلم يتمكن من نزعها بسرعة فقطع يدها».
بقيت الأمور على هذا السوء حتى يوم السبت 3 مارس، مثل هذا اليوم، 1811 بتأكيد «الجبرتى»، مضيفا: «أصبح يوم السبت والنهب والقتل والقبض على المتوارين والمختفين مستمر، ويدل البعض أو يغمز عليه، وركب الباشا محمد على فى الضحوة، ونزل من القلعة وحوله أمراؤه الكبار مشاة، وأمر بقتل اثنين من النهابين بقطع رأسيهما، وفى نفس ذلك اليوم نزل طوسون ابن الباشا، وقت نزول أبيه، وشق المدينة، وقتل شخصا من النهابين أيضا، فارتفع النهب وانكف العسكر عن ذلك، ولولا الباشا وابنه فى صبح ذلك اليوم، لنهب العسكر بقية المدينة، وحصل منهم غاية الضرر، وأما القبض على الأجناد والمماليك فمستمر».
يذكر «الجبرتى»، أن هناك الكثير من المماليك الذين كانوا يسكنون فى جميع الحارات والنواحى هربوا فى ذلك اليوم وخرجوا إلى قبلى، وبعضهم تزيا بزى نساء الفلاحين، وخرج ضمن الفلاحات التى يبعن «الجِلة»، والجبن، وذهبوا فى ضمنهم، وفر من نجا منهم إلى الشام وغيرها، وأرسل كتخدا، المحافظ أو مساعد محمد على، إلى الأقاليم يأمر بقتل كل من وجدوه من المماليك بالقرى والبلدان، فوردت الرؤوس فى ثانى يوم، يؤكد «الجبرتى» أن عدد القتلى فى هذه الحادثة أكثر من ألف إنسان، أمراء وأجناد وكشاف ومماليك.
ترتبط بهذه المذبحة قصة المملوك أمين بك، الذى تواترت الحكايات عن أنه قفز بحصانه أسوار القلعة، فنجا منها، يؤكد «الجبرتى» عملية هروبه. لكنه لم يذكر أن حصانه كان سببا فى إنقاذه، يقول نصا: «أمين بك تسلق من القلعة وهرب إلى ناحية الشام»، ويرى الزعيم الوطنى محمد فريد، فى كتابه «البهجة التوفيقية فى تاريخ مؤسس العائلة الخديوية»، أن هذه القصة محض اختلاق، فيقول: «ما تواتر على الألسن، بأن أمين بك عندما حصلت المذبحة هَم بجواده فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقتل جواده، وسلم هو فقط، فذلك أمر مبالغ فيه إن لم يكن محض اختلاق».
انتهت المذبحة، وبقى حكم التاريخ عليها وهو ما يناقشه الفرنسى جيلبرت سينويه، فى كتابه «الفرعون الأخير محمد على»، ترجمة عبدالسلام المودن، يذكر: «هل يجب تذكير من يستنكر هذه العملية أنها تدخل بشكل طبيعى فى إطار ما كان معروفا فى الأعراف السياسية لذلك العصر ولتلك المنطقة؟ فالصدر الأعظم والقبطان باشا قاما بمثل ذلك فى أبوقير والقاهرة فى أكتوبر 1801، وسيقوم السلطان محمود الثانى بعمل مشابه ضد الانكشارية فى استانبول سنة 1827، وقام بونابرت شخصيا فى شهر مارس 1799 وتحت أسوار يافا بقتل حوالى ألفين وخمسمائة سجين دون أن يرف له طرف».
ينتهى «سينويه» إلى القول: «لم تكن مصر تتسع لسلطتين، المماليك ومحمد على، فكان على واحدة منهما أن تختفى».