- الطب النفسى: الوحدة تؤدى للموت أحيانًا.. ولقب عانس كفيل بقتل الرغبة فى الحياة
- الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء: مصر بها 10.5 مليون عانس
مشهد رآه البعض على شاشات التليفزيون فتعاطفوا معه بقدر الحالة التى جسدتها الفنانة إلهام شاهين فى مسلسل "نعم ما زلت آنسة"، دموع مخفية خلف كثير من الأقنعة التى ترتديها الآنسات فوق سن الأربعين، والكلمات اللاتى ينطقن بها حين يعجزن عن الرد عن كلمة "مدام" التى تمتلك وقع ضربة الصوت بالنسبة إليهن، لكن الشىء المؤسف الذى يجهله الكثيرون ممن تعاطفوا مع هذا المشهد على اعتباره يحدث خلف الكاميرات، أن هناك الملايين ممن جسدت حالتهن الفنانة إلهام شاهين، وهن يعشن معنا ووسطنا وأمام الكاميرات وليس خلفها، بين آلام لا يعرفها شخص معافى أو مريض فهى أبعد ما يكون عن الآلام البدنية، لكنها آلام تصيب النفس فتجعلها قطعة هشة تقتل فيها نظرات الأشخاص وهمساتهم، هن آنسات حضرن أفراح صديقاتهن وأخواتهن وأبناء أخواتهن، دون أن يعرفن للفرح طعم، هن العائشات بيننا بأجساد نخر فيها الحزن والوحدة حتى تركوها أشباه أجساد دون أرواح.
تمر عليهن لحظات ربما تكون هى الأجمل فى حياة كل فرد منا، حين تأتى لحظة عيد ميلاده، لكنها تكون كالسكين الذى يمزق قلوبهن إربًا ويذكرهن بوحدتهن التى لا تنتهى ولن تنتهى، وتنتهى بهن الحياة فى دور للمسنين، أو يموتن دون أو يشعر بهن أحد، لذلك قرر "انفراد" أن يعرض عددًا من هذه الحالات الموجودة بيننا على أرض الواقع لتسرد حكايتهن مع لقب "عانس" وما صاحبه من الوحدة وآلام نفسية كثيرة.
حكاية "سامية" استبدلت الزوج والأبناء بـ"القطط"
فى تمام الساعة الرابعة والنصف عصرًا من كل يوم، تعود الدكتورة سامية محيى الدين صاحبة الـ58 عامًا من عملها، تحمل معها حقيبتين من البلاستيك بهما علب التونة والبطاطس واللبن، تدخل إلى بيتها مسرعة هربًا من ثرثرة الجيران التى لا تنتهِ منذ أكثر من 23 عامًا، تبدأ عملها المنزلى فى إعداد وجبات للقطط التى يزيد عددها على 30 قطة، تعيش معها فى منزل والدها مخصصة لها 3 غرف، وتحكى عن حكايتها مع لقب عانس الذى التصق بها دون أن تدرى وتقول "الناس كل يوم بيشوفونى وأنا معايا أكل القطط بيستغربوا بجيب كل ده لمين وأنا لوحدى، وكالعادة صاحب المحل بيقولى اتفضلى يا مدام، وأنا بسكت مبقتش بضايق خلاص لأن اللى فى سنى بقوا جدود، بس مش فاهمة ليه الناس مش بتسيبنى فى حالى، نفسى أصرخ وأقولهم جالى عرسان كتير وأنا كنت برفض مكنتش بايرة أنا عنست بمزاجى والوقت جرى ومخدتش بالى"، وأضافت "بيتهمونى بالجنون عشان بتكلم مع القطط، طب أنا لو مكلمتش القطط بنسى صوتى، وهكلم نفسى وهتجنن بجد، أنا اتعودت على الوحدة، بس كل يوم بقول يارب أموت وأنا فى الشغل عشان ألاقى حد يكفنى لأنى هنا محدش حاسس بيا، أنا حتى اليوم الإجازة بنزل فيه الشغل أصلى هقعد مع مين وليه، أنا الوحيدة فى مصر اللى بتزعل من الإجازات الرسمية، ولما أطلع معاش مش هقعد هفضل اشتغل، مش عاوزة مرتب بس بلاش يقعدونى من الشغل، كدة بيعجلوا بموتى بدرى أوى".
اعتراف إيمان: أنا عانس بمزاجى
وجه بشوش يحمل من علامات الشقاء التى تركها الزمن عليه الكثير، وعيون سوداء كحلها سهر الليالى فى كلية الطب حتى تقلدت الدكتورة إيمان حسن أحد المناصب العليا بكبرى المستشفيات، حياة المرأة الخمسينية تنحصر حول عملها وذهابها لقضاء مناسك العمرة أو الخروج مع أخواتها، وتحكى إيمان قصتها مع لقب عانس وتقول "الناس كلها متخيلة إن العانس دى، مكنش بيجيلها عرسان، أو إنها وحشة محدش يطيق يبصلها، لكن الحقيقة إن العانس دى ممكن يبقى عندها سبب تفضل من غير جواز، وأنا متجوزتش بمزاجى عشان مش عاوزة راجل يتحكم فيا، ليه أعيش مع شخص طول عمرى ينكد عليا، أنا دلوقتى بربى ولاد أخواتى الحاجة الوحيدة اللى ندمت عليها مش إنى متجوزتش، لكن إنى معنديش عيل، أنا كانت أمنية حياتى أرضع طفل ويبقى عارف ريحتى، الأمهات لما بيجوا يكشفوا على عيالهم بيستغربوا ليه بزعقلهم وأقولهم إنهم مهملين، بس بصبر نفسى بالعُمرة والخروج مع أخواتى، وخلاص لازم أعيش معاهم عشان لو تعبت محدش هيقعد بيا غيرهم ولما أموت ألاقى حد جنبى، بقيت بخاف أنام فى الشقة لوحدى، أنا كنت قوية زمان لكن دلوقتى بضعف يوم بعد يوم، وكل اللى زيى هيرتاحوا لو الناس بطلت تسأل وتخمن وتقول حاجات غلط، أنا مش مفترية ولا مجنونة، أنا شخص عادى جداً مقدرش يقبل سيطرة من شخص تانى، ودلوقتى قوتى بتتهد".
ابتسام.. خافت من الجواز ودلوقتى خايفة تموت لوحدها
من الحب ما "عنٌس" جسم رشيق، ملامح تكسوها علامات التوجس والخوف، ويدان مرتعشتان بسبب القلق والتوتر الفطرى الذى سيطر على ابتسام حسنى صاحبة الـ53 عامًا، التى عاشت فترة مراهقتها أفضل من معظم فتيات جيلها، فعشقت زميل الدراسة حق العشق، وظلت تراقب علاقات المحيطين بها التى دمرها الزواج وقضى على الحب الذى سبقها، فقررت أن تحصل على لقب عانس مقابل الحفاظ على حبها وعن حكايتها مع لقب عانس قالت: "فضلت أكتر من 20 سنة محافظة على حبى لزميل الدراسة، كنت بشوف أمى وأبويا بيتخانقوا وصاحباتى بيشتكوا من أجوازهم وبيدعوا عليهم، قولت أنا مش هتجوز عشان نفضل نحب بعض، هو فضل يحبنى بس اختار الأسرة والبيت واتجوز، وأنا فضلت زى منا خايفة على مشاعرى من أى حاجة، مشكلتى إن كان نفسى أبقى أم، الخوف هيموتنى بخاف أبص لأطفال عشان أمهاتهم ميشوفنيش، جبت قطط كتير عشان أبصلهم براحتى وأحضنهم، بخاف أعيا عشان مموتش لوحدى، عاوزة أروح دار مسنين بس خايفة على القطط، هفضل معاهم لحد ما هم يموتوا أو أنا أموت، أصل هم لو ماتوا أنا هعيش لمين، وهسيبهم لمين، جيرانى بيخافوا يزورونى عشان فاكرين إنى مجنونة وعايشة مع القطط لوحدى، ولما بلاقى قطة على السلم بدخلها وأكلها، لأنها وحيدى زيى، بس أنا مش مجنونة وأصحابى فى الشغل عارفنى كويس، ونفسى البنات تفهم إن الحب مطلعش أهم حاجة فى الدنيا، بلاش المشاعر تاخدهم أوى عشان متبقاش نهايتهم مع القطط زيى".
بكلم نفسى عشان مموتش من السكوت
أصوات عالية تخرج من تلفاز الأستاذة عبير حسنى مصابيح ذات أنوار صاخبة، من يمر من أمام منزلها يشعر وكأن هناك حالة من الازدحام أو المشاجرات بين أفراد الأسرة، لا يعرف أحد إنها تعيش بمفردها، ولا تجد ونيسا سوى أصوات التلفاز التى تشعرها إنها ما زالت على قيد الحياة وتسرد عبير صالحة الـ 48 عاما قصتها لـ"انفراد" وتقول: "مش عارفة أنا كنت برفض العرسان ليه، شكلى مش وحش وكل أخواتى اتجوزوا، بس دايمًا كنت بخاف أبعد عن بيتى أهلى أو النصيب بتوجعنى أوى كلمة يا مدام، بحس إن اللى بيقولها قاصد يجرحنى، كنت الأول بفضل أصحح وأقول آنسة لو سمحت، لكن دلوقتى بسكت وبقول لنفسى أيوة أنا آنسة فيها ايه يعنى، كل حاجة نصيب، مهو لو مكلمتش نفسى هموت من السكوت والناس مبترحمش حد، بس أكيد ربنا هيرحمنا"، بين الجدران تنتقل "عبير" من حجرة لأخرى، تقص على نفسها حكاية، وتسأل نفسها أسئلة وتنتظر أن يجيبها صوت غير صوتها، ولكن دون جدوى، هى الوحدة إذن التى خيمت بشباكها على ما تبقى من سنوات الحياة.
الطب النفسى: الوحدة تقتل أحيانًا
أكد الدكتور إبراهيم مجدى استشارى الطب النفسى أن مصطلح "عانس" فى حد ذاته مصطلح يحقر من قيمة المرأة، وأضاف أن هناك عدد قليل من الدراسات بشأن مشكلة العنوسة، أحدثها دراسة أجريت عام 2009، وخلصت الدراسة إلى أن النساء اللاتى لم يتزوجن يعانين من نظرة المجتمع، والإعلام دائمًا ما يتناول الموضوع بشىء من السخرية، بالإضافة إلى الاعتقاد الراسخ فى أذهان الناس عن الأسباب التى تؤدى إلى عنوسة الفتاة تتلخص فى أن "الست وحشة"، أو "بتحب الوحدة"، وأضاف الحقيقة أن المرأة التى لم تتزوج دائمًا تكون شخصيتها قوية جدًا، والرجال فى الشرق الأوسط بشكل عام تخشى الحياة مع المرأة صاحبة الشخصية القوية، وأشار "مجدى" إلى أن معهد الدوحة قدم دراسة تؤكد أن "القاهرة" تحتوى على أكبر نسبة من العنوسة، تليها "الجزائر، ليبيا، السعودية، الكويت"، مضيفًا أن فى الغرب لا يوجد مصطلح "عانس".
وأوضح أن نسبة العنوسة فى مصر، تقاس وفقًا للعادات الخاصة بكل محافظة، فعلى سبيل المثال فى محافظات الصعيد يلقبون الفتاة بـ"العانس" بعدما تتجاوز سن الـ25، بينما تحصل الفتاة على هذا اللقب فى القاهرة بعدما تتجاوز سن الـ35، على عكس محافظات الوجه البحرى التى يعتبرون الفتاة التى تبلغ الـ30 عاما دون زواج عانس.
وأكد "مجدى" أن نظرة المجتمع للمرأة العانس، تؤدى إلى إصابتها بعدد من الأمراض النفسية مثل "القلق، التوتر الدائم، الاكتئاب" وذلك يأتى بسبب الوحدة، وأضاف: "الوحدة أول طريق الانتحار، لأن الوحدة تؤدى إلى الاكتئاب ومن ثم تشعر الفتاة أنها غير قادرة على مساعدة نفسها، وتعيش فى فراغ مع نظرات المجتمع الناقدة، وتدخل بعدها فى مراحل متأخرة من الاكتئاب، ويكون أول حل لديها هو الانتحار، وأضاف "هناك حالات من الانتحار الناتج عن الوحدة، لكن بشكل عام تعتبر النسبة قليلة".
من جانبه وجه الدكتور إبراهيم نصائح للنساء غير المتزوجات لتجنب خطر الإصابة بالأمراض النفسية، وقال النساء القادرات ماديًا يمكن أن يلجأن إلى تبنى أطفال، أو كفالة أيتام، والمشاركة الفعالة فى أنشطة تطوعية، فضلاً عن الاشتراك فى النوادى والنشطة الاجتماعية الموجودة بها، والمساهمة فى عمل الخير قدر المستطاع، أما غير القاردات فعليهن بالتقرب إلى الله، والدعاء للناس كثيراً، وفعل الخير، بالإضافة إلى تواجدها مع جيرانها وأصدقائها وعدم الاكتراث إلى حديث الناس وتجاهل جميع النظرات والأفعال التى تزعجها.
برواز..
10,5 مليون عانس فى مصر
بعيدًا عن القصص التى يتخيلها المصريون عن العنوسة، تأتى الإحصائيات لتؤكد أن مصر تحتوى على أكثر من 10,5 مليون عانس من الفتيات اللاتى تجاوزت أعمارهن الـ35 عاماً وفقاً للإحصائية الأخيرة التى أصدرها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء بشأن نسبة العنوسة فى مصر، ويمثل معدل العنوسة فى مصر مثل 17% من الفتيات فى عمر الزواج، ولكن هذه النسبة فى تزايد مستمر وتختلف من محافظة لأخرى، فالمحافظات الحدودية النسبة فيها 30% لأن هذه المحافظات تحكمها عادات وتقاليد، أما مجتمع الحضر فالنسبة فيه 38% والوجه البحرى 27.8%، كما أن نسبة العنوسة فى الوجه القبلى هى الأقل حيث تصل إلى 25% ولكن المعدل يتزايد ويرتفع فى الحضر، وأسباب انتشار العنوسة فى مصر هو ارتفاع معدلات البطالة وغلاء المهور والإسكان على وجه الخصوص وارتفاع أسعار تكاليف الزواج الأخرى الناتجة عن العادات والتقاليد المتبعة، وكذلك ارتفاع معدل التعليم بالنسبة للإناث وأيضا تباين الكثافة السكانية من حيث الجنس حيث أن عدد الإناث أكثر من عدد الرجال، وجدير بالذكر أن ظاهرة العنوسة فى مصر أدت لزيادة بعض الظواهر غير المقبولة اجتماعيا ودينيا مثل ظواهر الزواج السرى والعرفى بين الشباب فى الجامعات والشذوذ الجنسى بين الفتيات.