أراد الزعيم مصطفى كامل، أن يسمع صوته أكثر عدد من رجال السياسة فى النمسا، فأقام وليمة كبرى فى فندق «متروبول» مساء الأربعاء 24 مارس، مثل هذا اليوم، 1897، دعا إليه أكثر من ثمانين من النواب والصحفيين، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «مصطفى كامل.. باعث الحركة الوطنية».
كان مصطفى كامل، يقيم فى باريس 32 شارع الجامعة، وفقا للكاتب الصحفى كامل زهيرى، فى كتابه «النيل فى خطر»، يضيف: «كان ينتقل منها إلى بودابست وفيينا، لأهمية الإمبراطورية الهنجارية النمساوية، ولأهمية ألمانيا القيصرية»، كان مصطفى كامل يتنقل للمطالبة بجلاء الاحتلال الإنجليزى عن مصر، وفيما يسود الاعتقاد بأنه كان يعتمد على فرنسا فى مطلبه، يذكر «زهيرى»: «هذه التنقلات تصحح ما شاع من أن مصطفى كامل اعتمد على فرنسا وحدها أثناء النزاع بين لندن وباريس، فقد نشط هذا الشاب الوطنى برومانسية شرقية وثقافة فرنسية بين عواصم أوروبا، يكتب ويخطب، ويتصل بكبار الصحفيين والكتاب والساسة».
كان من الغريب فى رحلة فيينا، أن يلتقى مصطفى كامل داعية جلاء الإنجليز بالزعيم الصهيونى «هرتزل»، داعية الدولة اليهودية، حسب تأكيد «زهيرى»، معلقا: «فرق كبير بين الرجلين، وكان اللقاء بينهما لقاء عابرى طريق».
يذكر «الرافعى»، أنه بعد أن تناول ضيوف مصطفى كامل العشاء فى فندق «متروبول» وقف يلقى فيهم خطابا قائلا: «إن مصر أيها السادة تشكر لكم من صميم أفئدة أبنائها، إجابتكم دعوة مصرى منهم جاء بلادكم العزيز أكثر من مرة، اتصل برجالكم المعدودين الذين أنتم من صفوتهم، سائلا بكل إلحاح وحق نصرة مسألتنا التى تنحصر فى كلمتين «احتلال مؤقت»، لا يمكث إلا ستة أشهر، وله اليوم خمسة عشر عاما أى ثلاثون ستة أشهر».
«إذا كان أيها السادة حبل الكذب طويلا، فلا بد أن يكون لهذا الطول حد، وإذا كان الكذب شعار المتمدنين، فماذا يكون شعار المتوحشين المتعصبين كما يتهمنا الإنجليز، إن لى الحق أيها السادة إذا قلت إن العصر الحاضر عصر ظلم، وافتئات على الحقوق، لا عصر عدل وإنصاف ورد الحقوق إلى أهلها، إن المصريين مشهورون من قديم الزمان بالدعة والاعتدال، ولهم مآثر على العالم أجمع إن أنكرها الإنجليز فلا ينكرها التاريخ الذى هو أعدل شاهد يحكم بيننا وبين أمة ظلت رايتها التى أقسمت بشرفها، والتاج الذى يجب احترامه، فقدمتهما ضمانا على صدقها عندما دخلت بلادنا ووعدت بالجلاء عنها عندما تتوطد عرى الخديوية ويستتب الأمن، فها هو ذا الأمن مستتب والأمة بأسرها ملتفة حول أميرها عباس حلمى الثانى، إنى لا أطيل شرح عيوب الاحتلال، فقد شرحت ذلك مرارا، ولكنى أسأل ضمائركم الحرة أن تكونوا أصوات عدل فى المسألة المصرية، فإننا نعترف على الدوام بالجميل لمن يؤيدنا، كما تجدون منا إلى أبد الآبدين أصدقاء أوفياء يذكرونكم بكل خير، ويمجدون فيكم تلك الروح الشريفة التى أودعتموها نفس أمير مصر، ألا وهى روح الحرية واحترام إرادة الشعب، وفى الختام أكرر لكم بلسان الوطن والأمة عظيم الشكر على الود الذى أظهرتموه نحونا لتكون مصر للمصريين».
يذكر «زهيرى» قصة لقاء «هرتزل» ومصطفى كامل، ينقل قول الزعيم الصهيونى فى مذكراته ما نصه: «الموفد المصرى، مصطفى كامل الذى كان قد زارنى من قبل زارنى ثانية، إنه فى رحلة أخرى لجمع المشاعر المؤيدة لقضية الشعب المصرى الذى يسعى للخلاص من السيطرة البريطانية، إن هذا الشاب المشرقى يعطى انطباعا ممتازا، وهو مثقف وراق وذكى وبليغ، وقد دونته فى ذاكرتى لأنه قد يلعب يوما ما دورا فى سياسة الشرق، حيث قد نلتقى مرة ثانية».
يضيف «هرتزل»: «إن سليل مضطهدينا فى مصر، يتنهد اليوم من عذاب الرق، وتقوده طريقه إلىَّ أنا اليهودى، طالبا مساعدتى الصحفية، أشعر مع أننى لم أخبره بذلك بأنه مما يفيد قضيتنا أن يضطر الإنجليز إلى مغادرة مصر، فإنهم سيضطرون آنذاك أن يبحثوا عن طريق آخر إلى الهند بدل قناة السويس التى ستضيع منهم، أو على الأقل تصبح غير مأمونة، آنذاك تصبح فلسطين اليهودية الحديثة مناسبة لهم فى الطريق من يافا إلى الخليج الفارسى».
يؤكد «زهيرى» أن هذا اللقاء الغريب كان لقاء عابرى نفس الطريق، ولكن كلا منهما كان يتجه اتجاها مختلفا، مصطفى كامل كان يرتب أموره على أساس الحفاظ على الصلة مع تركيا العثمانية، والتقارب مع فرنسا منافسة إنجلترا، والتودد لألمانيا المنافس والخصم القوى الجديد، أما هرتزل فكان ينتقل بالفكرة الصهيونية من الآستانة وبرلين، ومن بودابست وفينا إلى لندن عاصمة الاستعمار الأقوى والأكثر ضمانا.