في زيارتها لجريدة انفراد منذ فترة قابلتها مصادفة على السلم، كنت خارجا لتوي من اجتماع مهم، وكانت هي في طريقها للندوة التي عقدناها لها، كانت متعجلة لإتمام الندوة لأن زملاءنا من محبيها ومعجبيها أطالوا زمن جولتها بالجريدة والتصوير معها، لم اخف سعادتي بمقابلتها وللأسف كانت ارتباطاتي تمنعني من حضور الندوة، فسألتها سريعا: لماذا برغم أنك غير مصرية الأصل لكننا كلما أردنا أن نجسد شخصية مصرية لا نجد أنسب منك للقيام بها؟ فوقفت على السلم وأبدت اهتماما كبيرا بالسؤال ومضت ترشح: أنا في الأساس من جنوب تونس، وهذه المنطقة مشهورة بهجراتها إلى مصر وهجرة المصريين إليها، وأظن أنه ربما تكون تلك الهجرات هي السبب في أن أكون بهذا الشكل القريب أشكال المصريين.
كانت هند صبري سعيدة بالسؤال العابر، وسعيدة بالإجابة عليه، وسعيدة لأنني ربما جعلتها تفتش في التاريخ والجغرافيا لتكشف معلومة ربما كانت في آخر محطات وعيها، لكن ما لم أقله وقتها لهند صبري أن هذه المعلومة في الحقيقة ليست بجديدة على الإطلاق، فمن الصعب أن تجد في هذه المنطقة الممتدة أصولا نقية أو عرقا لا يقبل التداخل، فقد وصفت "هند" حالتنا العامة سواء كنا عربا أو من أهل الشمال الأفريقي وهي تظن أنها تشرح حالتها الخاصة، لكن ما أسعدني حقا هو روحا التي رأيتها فخورة وهي تشبك الماضي بالحاضر لتثبت أن لها أصول مصرية، حتى وإن كانت بعيدة، تدمج الآن في أصولها الجديدة باعتبارها ممثلة مصرية، وحاملة للجنسية المصرية.
هذا المشهد هو ما تذكرته اليوم وأنا أتابع حالة التنمر المريبة بهذه الفنانة الكبيرة، والسبب أن البعض لم يعجبهم أنها شاركت في الاحتفالية المصرية الكبيرة بنقل مومياوات ملوك مصر السابقين من المتحف المصري إلى متحف الحضارة يوم 3 أبريل القادم، وهو الحدث الذي ينتظره الجميع ويأمل الجميع بأن يمر بخير وسلام، وأن يظهر في أحسن صورة وأكمل وجه، وفي الحقيقة فإني لا أفهم الحجج التي ساقها البعض مسوغا لهذا الغضب المصطنع، فقال البعض إن هند صبري ليست مصرية فكيف تشارك في هذا الاحتفال المصري الخالص، وقال آخرون أن هنا من هم أولى بتمثيل مصر، ذاكرين أسماء الكثير من الفنانات المصريات اللاتي لا يختلف عليهن أثنان.
في الحقيقة أيضا فإني أرى أن هذا الهجوم الكاسح على هند صبري تحت زعم الغيرة الوطنية لا يصب أبدا في صالح "الوطن" ولكنه ينتقص منه، وقبل أن أذكر لك أسباب هذا الاعتقاد دعني أؤكد لك أني إلى الآن لا أعرف حقيقة دور هند صبري في هذه الاحتفالية، ولا أعرف إن كانت مشاركتها فيها ستكون في الحفل الحي أم عن طريق المشاركة بتسجيل دعائي وهذا هو الأقرب للخيال، ولا أعرف أيضا أهي الوحيدة التي ستشارك في الحفل أم سيشاركها آخرون.
نأتي هنا إلى سبب امتعاضي من هذا الهجوم غير المبرر على هند صبري، وهي في الحقيقة تتلخص في أني لا أرى مصر أبدا كدولة منغلقة، بل دعني أقول لك أني لا أرى مصر باعتبارها دولة وفقط، مصر ليست تلك الحدود التي لا نراها، وليست تلك الجغرافيا ولا حتى هذا التاريخ، مصر في ظني معنا كبيرا وروحا عابرة، مصر في ظني قيمة من الجمال والمحبة والتسامح والتعايش والحب، مصر بنت التآخي وأم الدنيا، فهل يجوز أن ننتزع من هذه الأم كل هؤلاء الأبناء؟
مصر تعرف جيدا أن أولادها في العالم كله، وأنها اختيار وليست جبرا، كم من مصري ولد على أرض مصر لا يستحق أن يشم هواءها ولا أن يشرب ماءها، وكم من غريب بعيد هام عشقا فيها ومات دفاعا عنها، مصر أم الجميع، ابنة الفكرة، ابنة الحلم، ابنة الإنجاز، مصر تلك الحاضنة التي احتوت "بيرم التونسي" وجعلته سيدا لشعر العامية المصرية، وهي السحر الذي مس السوري اللبناني الأصل "فؤاد حداد" وجعلته أبو شعراء العامية، مصر العظيمة التي أسهم في تأسيس صحافتها البناني جورجي زيدان صاحب دار الهلال والشاميين بشارة وسليم تقلا مؤسسا الأهرام، مصر هي النداهة التي نادت على "أبو خليل القباني" ليؤسس ليسهم في تأسيس المسرح المصري، البنانية بديعة مصابني لتطلق غالبية الأسماء الفنية الشهيرة.
مصر هي هذا البنيان الذي وقف أمام العنصريات، وهي هذا الآتون الذي صعر كل الأعراق، مصر التي أهدت العالم المحبة، فأهداها الجميع أرواحهم، لا أحد يسأل عن الأصل العراقي لنجيب الريحاني، ولا الأصل السوري لأنور وجدي، ولا الأصل السوري لسعاد حسني ونجاة، ولا الأصل السوري لفريد الأطرش وأسمهان، ولا الأصل الأرمني لنيلي ولبلبة، ولا الأصل اللبناني الفلسطيني لعبد السلام النابلسي، ولا الأصل السوري لماري منيب، ولا الأصل المغربي لليلى مراد ومنير مراد، ولا الأصل اللبناني لعمر الشريف.
نحن تعلمنا حب مصر من أغنية "يا أحلى اسم في الوجود" التي غنتها نجاح سلام اللبنانية الأصل، وتعلنا حب مصر من "عظيمة يا مصر" التي غناها اللبناني وديع الصافي، وتعلمنا حبها من "سنة وسنتين" لفريد الأطرش، ورقصنا جميعا في انتصاراتنا الكروية على صوت اللبنانية "نانسي عجرم" كما أعلنا انتصارنا على جحافل التعصب الديني بصوت الإماراتي "حسين الجسمي" وبشرة خير.
لا ألوم هنا على النزعة التي انتابت البعض وإن كانت في ظاهرها الغيرة، لكني أحذر من أن يكون باطنها ضيق الأفق وعدم الإدراك لدور مصر، وبالمناسبة تلك الأقاويل لم تكن أبدا جديدة، فقيل مثلها لكثيرين من أصحاب المواهب الجبارة وعلى رأسهم فريد الأطرش، كما شنت حملات مثل هذه على الفنان اللبناني وليد عوني حينما صنع مدرسة الفن الحديث، والفنان نصير شمه حينما صنع بيت العود، والفنان سليم سحاب حينما صنع مشروعه الموسيقى الممتد، لكن لحسن الحظ أن بمصر دائما من يفرش رداء المحبة ويذود عن روح مصر الحاضنة للكل والحامية للكل والمرحبة بالكل، وهنا جاء الوقت لكي أرد على نظرات المحبة التي قفزت إلى عيون هند صبري وهي تحاول أن تستكشف أصولها المصرية لأقول لها أنها بفنها ومحبتها وصدقها انتمائها فخر لمصر كما كانت مصر فخر لك.