احتشد أهالى قرية «الكونيسة» القريبة من أهرام الجيزة، وقرية مجاورة لها، ليشاهدوا تنفيذ الحكم بجلد ثمانية من أبناء القريتين وبشكل شديد القسوة، يوم 31 مارس، مثل هذا اليوم، 1887، بسبب الاعتداء على بعض ضباط الاحتلال الإنجليزى، حسبما يذكر الدكتور يونان لبيب رزق فى الجزء الثانى من «الأهرام، ديوان الحياة المعاصرة».
وقع الحدث بعد بدء الاحتلال الإنجليزى لمصر بخمس سنوات، وكان مشهدا مأساويا يقارنه «رزق» بما جرى بعد ذلك بنحو عشرين عاما فى قرية «دنشواى» بمحافظة المنوفية يوم الخميس 28 يونيو عام 1906، حين أعدم أربعة وجلد ثمانية من أبناء «دنشواى» على مرأى ومسمع من ذويهم وجيرانهم، والذى استقر فى الضمير الوطنى المصرى باعتباره سبة عار فى جبين الاحتلال البريطانى فى البلاد.
ينقل «رزق» عن «كولز باشا» أحد القيادات البريطانية فى البوليس المصرى، والذى تكفل بمهمة ضبط المتهمين فى هذه الحادثة أن يصفها بـ«دنشواى الصغيرة» فى كتاب صدر فى لندن عام 1919 عن ذكرياته إبان فترة عمله بمصر.. يؤكد «رزق» أن حادثة الجيزة كانت بمثابة «البروفة» لحادثة المنوفية، وأن فكرة إقامة «محكمة مخصوصة» لمثل هذا النوع من الحوادث الذى تتعرض فيه حياة العسكريين البريطانيين فى مصر للخطر، وفكرة العقاب الفورى أمام الأهالى.
يذكر «رزق» وقائع ما جرى فى «الكونيسة» نقلا عن الأهرام يوم الثلاثاء 29 مارس 1887، ونصه: «ذهب اثنان من ضباط الإنجليز نهار أمس «28 مارس 1887» ومعهما أحد العربان بصفة دليل إلى الجيزة جهة الأهرام، وبينما هما يصطادان فى وسط الزروع تعرض لهما البعض من أهالى تلك الجهة، وأرادوا أن يأخذوا منها السلاح، فأطلق أحد الضابطين عليهم عيارا ناريا فقتل واحدا منهم، ثم ازداد عدد الأهالى فكتفوا الضابطين بعد أن جرحا منهم خمسة أنفار ثم قادوهما إلى البلدة ولما بلغ البوليس أمرهما، أخذهما وقيل إنه لم يجرح غير واحد من الأهالى سوى من قتل أولا، وأن الأهالى بعد أن كتفوا الضابطين أتوا بهما إلى الكوبرى ليسلموهما إلى الحكومة فقابلهم البوليس، وأخذ الضابطين منهم وقد ذهب اليوم حضرة «كولز» باشا مع عدد كبير من البوليس إلى الجهة المذكورة لتحقيق الواقعة».
فى يوم الخميس 30 مارس 1887، ذكرت الأهرام، أنه تم القبض على عشرة من الأهالى وأخذت النيابة فى التحقيق معهم، وانعقد اجتماع فى مقر مجلس الوزراء حضره مع نوبار باشا وزراء الداخلية والحقانية ومدير الجيزة، وتداولوا فى أهمية المسألة، وكيفية الإجراء فيها «كما تقتضيه العدالة».
يذكر «رزق»، أن تقرير الحكومة حول الحادث كان يستفاد منه باختصار، أنه بينما قتل الضابطان واحدا من الأهالى، وأصابوا خمسة فإن كل ما فعله هؤلاء أن أمسكوهما وقيدوهما وضربوهما ضربا مؤلما، وكان يمكن أن ينظر لكل ذلك فى إطار حق الدفاع عن النفس، ولكن المسألة كانت أكبر من ذلك، كانت إهانة «اليونيفورم» العسكرى البريطانى مما لا يمكن أن يسمح به.
بدأت سلطات الاحتلال فى اتخاذ إجراءات الردع ضد الأهالى، ويذكرها «رزق» نقلا عن الأهرام قائلا: «إن أول ما حدث أن أعيد الضابطان معززين مكرمين إلى ثكناتهما فى قصر النيل بعد أن تم تخليصهما من أيدى أهالى البلدة، أما القتيل الذى وجد فى جسده سبع عشرة خردقة، فقد أرسل إلى سبتالية قصر العينى، وأخذه أقرباؤه ودفنوه، وتم خلال ذلك القبض على مشايخ البلدتين اللتين خرج أهلهما فى عملية القبض على الضابطين، فضلا عن «خمسة وأربعين نفرا» من هؤلاء الأهالى «ممن وقعت عليهم الشبهة».
فى نفس اليوم شكلت «لجنة خصوصية» للنظر فى القضية تتألف من مدير الجيزة وشفيق بك منصور «نائب المدعى العام لدى المحاكم الأهلية» والماجور مكدونالد الضابط فى القنصلية الإنجليزية، وأصدرت أحكاما سريعة بأن يجلد كل منهم من 25 إلى 75 جلدة بحسب درجة ذنبه فى نفس بلدتهم، ورفت شيخى البلدتين، وحبس الأول ستة أشهر، بينما يجلد الثانى خمس وعشرين جلدة يتلقاها أمام أهالى بلدته، والحكم على أربعة آخرين من المشايخ بالحبس ثمانية أيام، وغرامة تراوحت بين ثمانية وعشرة جنيهات، أما سائر الأنفار من المزارعين فكانت عقوباتهم أقسى، فقد حكم على «ماهروب رسلان» بثلاثين جلدة، وحبس 15 يوما، وعلى حسن حدوس بعشرين جلدة فقط، وعلى سالم منتازى بخمسين جلدة وحبس 3 أشهر، وعلى كل من عبدالهادى محمد وإبراهيم محمد بخمس وعشرين جلدة وحبس 3 أيام.