طلب السفير البريطانى فى مصر «مايلز لامبسون» من رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا، أن يحد من النشاط السياسى لعلى ماهر باشا رئيس الوزراء السابق، حسبما يذكر الدكتور محمد حسين هيكل باشا فى الجزء الثانى من مذكراته، مضيفا: «كان على ماهر مقيما فى مزرعته بالقصر الأخضر، على مقربة من الإسكندرية، حين تم إبلاغ «النحاس» بهذا الطلب، ورأى النحاس أن خير وسيلة لإجابة رغبة السفير من غير ضجة، أو إثارة الرأى العام، أن يلزم على ماهر بالإقامة حيث هو، فلا يبرح القصر الأخضر، وأبلغه بهذا الأمر، وأرسل قوة عسكرية أحاطت بالمزرعة، لمراقبة صاحب المقام الرفيع رئيس الوزراء السابق، وأول حاكم عسكرى فى مصر، حتى لا يخرج أو يحاول الخروج من المكان».
يضيف هيكل باشا: «لم يطق على ماهر أن يذعن لهذا الأمر، وفكر فى وسيلة للخلاص منه، ولما كان عضوا بمجلس الشيوخ، فقد ظن أن الحصانة البرلمانية تحميه، لهذا تحايل حتى استطاع أن يفلت من حراسه، وجاء إلى القاهرة من الطريق الصحراوى، ونزل بيت زميله فى وزارته مصطفى الشوربجى بك المحامى وعضو مجلس الشيوخ، وعلم النحاس بما حدث، وعرف مقر على ماهر فآثر الحيطة حتى لا يعتدى على حصانة منزل الشوربجى بك، وأمر البوليس بانتظار على ماهر باشا والقبض عليه متى خرج من المنزل، لكن على باشا خرج، وركب مع الشوربجى فى سيارته، وذهب إلى فناء وزارة الأشغال كى يتخطاه إلى حرم مجلس الشيوخ، وهنا استوقفه رجل البوليس المكلف بتعقبه وحاول منعه من دخول المجلس، فدفعه على ماهر ودخل».
حضر «على ماهر» جلسة مجلس الشيوخ، ويذكر «هيكل باشا» الذى كان زعيما للمعارضة فيه، أن محمد بك محمود خليل رئيس المجلس علم بما حدث لكنه تجاهله، ومنع على ماهر منعا عنيفا حين أراد الكلام بحجة أن ما يريد الكلام فيه غير مدرج فى جدول الأعمال، يؤكد هيكل باشا، أن على ماهر بقى محتميا بحرم المجلس، وأن عبدالقوى أحمد باشا، وزير الأشغال فى وزارته الأخيرة، طلب من رئيس المجلس أن يحمى الرجل وهو عضو فيه، لكن رئيس المجلس أبدى أنه لا يملك شيئا خارج حدود المجلس.. يضيف هيكل: «بقيت هذه المحادثات زمنا قيل إن أسلاك التليفون المتصلة بالمجلس قطعت فى أثنائه، وإن على ماهر طُلب إليه بعد انصراف الرئيس أن يغادر المجلس، فلما غادره قبض البوليس عليه ليذهب به إلى معتقل جديد لا يستطيع مغادرته».
يعتبر الكاتب الصحفى «صبرى أبوالمجد» هذه القصة من القصص الفريدة، ويذكر فى الجزء الثالث من كتابه «سنوات ما قبل الثورة 1930 - 1952»: «لامثيل لها من قبل فى تاريخنا السياسى حتى أيام الحرب العالمية الأولى، حيث كانت مصر تحكم بحاكم عسكرى بريطانى»، ويضيف أن مجلس النواب شهد غضبا بسبب هذه الخطوة..وفى جلسة المجلس يوم 13 إبريل 1942، وجه النائب عبدالسلام الشاذلى استجوابا إلى رئيس الوزراء بشأن هذه القضية، وطلب أن يناقش الاستجواب بعد أسبوع.
وفى جلسة المجلس يوم 20 إبريل، مثل هذا اليوم، 1942، أوضح «الشاذلى» أهمية استجوابه قائلا: «ليس موضوع الاستجواب موضوع على ماهر باشا بل هو أهم من ذلك وأخطر، إنه موضوع الحياة النيابية، موضوع الحصانة البرلمانية وحرية النواب فى تأدية واجباتهم»، واستعرض «الشاذلى» وقائع ما حدث، وقال: «كلنا متفقون ومسلمون بأن الحصانة البرلمانية فى موضوع على ماهر باشا قد مست، واعتدى على كرامة مجلس الشيوخ، ولا بد أن نتضامن معه فى هذا الأمر».
رد مصطفى النحاس، بأن أمورا جسام عرضت سلامة الدولة وأمنها للخطر، قبل تولى وزارة الشعب «وزارته» مقاليد الحكم، وعندما تولينا الحكم كان لا بد أن تعمل فورا لتطهير البلاد من جراثيم هذا الخطر، غير أن من بذر هذه الجراثيم وتعهدوها لم يقدروا مع الأسف الحكمة والموعظة الحسنة التى أخذوا بها ولم يستجيبوا لدواعى الوطنية الحقة، بل ظلوا على مسلكهم يتعهدون بذر هذه الجراثيم..وكشف النحاس عن محاولات تفاهمه مع على ماهر باشا من «أجل تجنيب البلاد ويلات الخطر»، وأنه عرض عليه السفر إلى الخارج لا باعتباره موظفا أو وزيرا مفوضا ولا مطلوبا منه أن يغادر هذه البلاد، بل بمحض اختياره.. ثم تحدث عن اتفاقه معه على أن يبقى فى عزبته.. ورد النحاس على ما جاء على لسان الشاذلى من أن جهة أجنبية هى التى طلبت اعتقاله، قائلا: «لا علم لى بشىء من هذه المسائل، وأنا لا أسمح بتاتا لسلطة أجنبية أيا كانت أن تتدخل فى مثل هذه الإجراءات».