"التصوف هو الحل"المحبة والزهد والتسامح "ثالوث" أهل الله فى وجه "داعش" ومحاكم التفتيش الجديدة نشر "التصوف" ضرورة فى زمن "الظمأ الروحى" "الحلاج" صرخ فى وجه قاتليه: "أنا على مذهب ربى"

نقلا عن العدد اليومى...

فى زمن تسيد فيه المتطرفون، وشاعت الأفكار المتشددة بين الكثيرين.. فى زمن يقتل فيه الآلاف ويشردون بداعى الدين.. فى زمن غابت فيه القيم النبيلة كالتسامح والصفاء والزهد والمحبة والإيثار والإخاء، وانتشر البغض والشحناء والشح والبخل والتشدد والبذخ، وغيرها مما فرضته «المادية» التى يعيش العالم الآن فى أسفل منحنياتها، حيث فرض منطق القوة وغابت معانى التضامن، لذا فلا غنى عن التصوف وإشاعته بين الناس، ليعود الارتياح النفسى الذى غاب عن البشر، وخاصة فى أوطاننا، التى تعانى ويلات حروب وفتن يشعلها مدعو التدين وأنصاره.

بالطبع، لا أعنى هنا، التصوف بمظهره وشكله ومظاهره التى يسمه بها البعض، فيصبح بالنسبة لهم وسيلة هدامة، وبهرجًا يتسولون به، ويهربون من المسؤولية الاجتماعية، ويصدمون الناس بتصرفاتهم وتجديفاتهم غير المعقولة، وهم بهذا يظلمون التصوف ذاته، ويلبسون الحق بالباطل، ويجنون على أحد أهم تجليات الدين الإسلامى وأرفعها وأقضاها ضرورة للبشرية. وللصوفى الحق، أو للصوفية الحق، صفات وأدلة، أبرزها المحبة للجميع والتسامح مع الكل، والزهد والترفع، وغيرها، ولكننا نركز على هذه الصفات فى هذا التقرير «المحبة والتسامح والزهد» لما تحمله من تجليات أخلاقية اجتماعية نحتاجها الآن فى ظل التوحش الذى يسود العالم، والرؤية الضيقة للمتشددين الذين يحتكرون الجنة لهم، ويقصون الآخرين عنها.

ولا يقتصر الأمر بالنسبة لهم على ذلك، ولكنهم يزعمون أنهم يملكون الحكم على الآخرين، لإجبارهم على اعتناق أفكارهم، والإيمان به، ولو وصل الأمر لقتلهم، وهذا هو الرافد الأساسى للإرهاب، حيث يزعم معتنقو الأفكار التكفيرية والجماعات المتشددة أنهم ملاك الحقيقة المطلقة، وأن واجبهم محاربة الضلال وتغيير الواقع الذى يرفضونه كليا، ويظنون أننا نعيش فى جاهلية، وكل ذلك يقتضى أن نشيع مفهوم «الفردية» فى السلوك التدينى، بمعنى أن يصبح التدين سلوكا فرديا، ليس لأحد إجبار آخر على اعتناق ما يعتنق، ويظن أنه الطريق الصحيح، فلدى الصوفية الاعتقاد المشهور القائل «بأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق».

أدين بدين الحب «أما محبة الحق «الله» فكامنة فى العالم كله وفى الناس كلهم، من مجوس ويهود ونصارى وفى الموجودات جميعا، إذ كيف لا يحب الإنسان مُوجِدَه.. المحبة كامنة فى كل إنسان، لكن ثمة موانع تحجبها وعندما تزول تلك الموانع تظهر تلك المحبة» العبارة السابقة جرى ذكرها على لسان القطب الصوفى مولانا جلال الدين الرومى فى كتابه ذى الأسرار «فيه ما فيه»، حيث تسمو معنى المحبة الصوفية الطالعة من معين العشق الإلهى، وتتجاوز ذات المحب وشخصه ودينه وزمانه إلى ذات المحبوب الواحد وهو الله.

ويذخر التراث الصوفى الإسلامى بالعديد من الاستشهادات على أن محبة الله شريك بين البشر جميعا، ولا سلطان لأحد عليها، وهو ما يجعل أئمة المتصوفين فى مقدمة دعاة الحب والتسامح، الذى نحن فى أشد الحاجة إليه فى زمن الظمأ الروحى وانتشار موجات الإلحاد والتطرف والغلو، فإن كان التصوف منبعه ومبتدأه من الدين، وأقطابه جميعا من مشايخ الإسلام، فإنه يتجاوز الفهم الفقهى الضيق والتأويل المعتل إلى الأفق الشفيف الأرحب، فلا فرق فى محبة الله، بين صاحب دين وآخر، فالإنسانية جميعا شركاء فى القرب، وينطق الشيخ الرائى وصاحب الفتوحات المكية محيى الدين بن عربى بذلك فى أبياته الرائقة: «لقد صار قلبى قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب دينى وإيمانى» ويرمز كثير من المتصوفة للمحبة الإلهية وللذات العليا بالأسماء كـ«ليلى وسعاد»، وبالأوصاف، وينهل أهل الله من آبار الوجد، ما يطرب القلوب، ويجعل النفس ترتقى وتصفو عن التعصب والفقر الروحى الذى نحياه فى عصرنا هذا، وما أحوجنا إليه فى زمن كهذا الذى نرى فيه من يقتل باسم قوة الله، وهو غافل عن ذكره، ويخرج غيره من روضة المحبين، وروحه صلدة، فعسى تَرِقُّ لو اقترب وذاق من شَهْدِ الوجد «فمن ذاق عرف»، كما نطق المتصوفة.

ويصف السهروردى جمال المقام قرب المحبوب فى قصيدته الشهيرة التى مطلعها «أبدا تحن إليكم الأرواح»: أهل المحبة حين طاب شرابهم باعوا النفوس لحبهم وارتاحوا شربوا كؤوس الحب فى حان الصفا فتمايلت سكرا بها الأرواح ملأ الحبيب قلوبهم من نوره فشذاهمو من عطره فواح يحيى الحبيب بذكرهم وبنورهم وتزول عند لقاهمو الأتراح وإذا جف ماء قلبك، وأغشت الدنيا عينيك عن الرؤية، فاطلب العون من ابن الفارض، الذى يقول: زدنى بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشا بلظى هواك تسعرا وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابى لن ترى يا قلب أنت وعدتنى فى حبهم صبرا فحاذر أن تضيق وتضجرا إن الغرام هو الحياة فمت به صبا فحقك أن تموت وتعذرا فإذا نداك منادٍ بِشَّرٍ أو بكراهية لأحد فاستعن عليه بنداء الله، ولبه كما قال الحلاج: لبّيكَ لبّيكَ يا سرّى ونجوائـى لبّيك لبّيك يا قصدى ومعنائى أدعوك بلْ أنت تدعونى إليك فهـلْ ناديتُ إيّاك أم ناجيتَ إيّائى يا عين عين وجودى يا مدى هممى يا منطقى وعباراتى وإعيائـى يا كلّ كلّى يا سمعى ويا بصرى يا جملتى وتباعيضى وأجزائى التدين سلوك فردى وللوصول لله والوجد به، طرق ومسالك وسلوك عند أحبائه ووصفائه من المتصوفين، وكلها موصلة إلى ملكوت المحبوب وذاته، حسب الدرجات التى تعلوها والطبقات التى ترتقى له، ولا يمليها عليك أحد أو يرى أن هذا هو الطريق الأوحد.

ويسقط الصوفية كل ما دون المحبة من العلائق، فلا يهم أن تكون فقيرا أو غنيا أو رجلا او امرأة أو أميرا أو عبدا، أو شيخا أو عاصيا، لا مجال للتصنيف، أو المظهر، فالمحبة فردية، لا وصاية لأحد عليها، والله هو الفرد الصمد الواحد، كما سمى نفسه، وقديما صاح الحلاج فى وجه قاتليه من الجهال الذين يقف لفظ الله على أول شفاههم، عندما سألوه عن مذهبه، فرد عليهم وهو على شفا الموت: «أنا على مذهب ربى».

الزهد أول خطى العارف وفى عالم تغيب فيه التضامن ويحتكر ثرواته قلةٌ، يعيشون فى بهرج، نحتاج لإشاعة خُلق الزهد والترفع عن الماديات.

فالتجرد والزهد شرط «التصوف»، وما عليك لتصبح عبدًا من عباد الله، وعاشقا لذاته، إلا أن تخلع رداء الدنيا وتترك مفاتنها ووسائلها وغايتها، فأحد تعريفات التصوف الكثيرة هو «التخلى عن كل دَنِى والتحلى بكلى سَنى»، وأتى «التصوف»، لغةً، حسب أكثر التأويلات، من «الصُوفِ الخشن» وهو رداء أهل الله، الذين لم يأخذوا الحرير ملبسا، وبداية المتصوفة فى الإسلام كانت «الزهد»، وكان سيد الزاهدين محمد رسول الله، فالتجرد من المتاع أول خطى العارف.

ويقول أبو يزيد البسطامى، فى ذكر سلوكه: «لما أشرفنى على التوحيد طلقت نفسى وصرت إلى ربى، وناديته بالاستغاثة إليه قلت يا مولاى أدعوك دعاء من لم يبق له غيره، فلما عرف صدقى فى الدعاء مع إياسى من نفسى بالكلية، فأنسانى الخلائق والملكوت، فخليت من الهموم وبقيت بلا هم..»، فمن أثر محبة الله على عبده أن يرفعه عن العلائق الدنيوية والطمع، والذوبان فى الوجد حتى نسيان الجسد إلى الروح إلى التوحد مع ذات محبوبك، وذروة الطريق «الحلول» الذى تغنى به كبار العشاق ومنهم الحلاج إذ يقول: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتنى أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا أيها السائل عن قصتنا لو ترانا لم تفرق بيننا روحه روحى وروحى روحه من رأى روحين حلت بدنا أخلاق الصوفية الحق والصوفية الحق، وليس الدجالين الذين يدعون من الكرامات ما ليس لهم، ومن العلم ما لم يؤتوا، أوصاف وأخلاق ومواثيق تليق بمحبى الله، فهم كما يقول الإمام أبو القاسم الجنيد فى كتابه «الميثاق»: «صفوة من عباده وخلصاء من خلقه، انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة وأفردهم به له، جعل أجسامهم دنيوية وأرواحهم نورانية وأوهامهم روحانية.. ليس لهم مأوى إلى إليه ولا مستقر إلا عنده»، فالصوفية الحق لهم عليهم علامات، وتعرفهم بسيماهم، وليس بأقوالهم فقط، فهم الخير المطلق والحب العارم، والداعون إلى التسامح.

ولمحبة الله فيوض ومواجد تأخذ القلوب، وللصوفية تعبير آخذ عن حالهم، واشتياقهم، مرة بالتصريح ومرة بالرمز، فأسموا المحبة «خمرا»، فيقول أبو يزيد البسطامى: «سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته»، وينطق العارف بالله ابن الفارض: «شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكَرْمُ» دار الإفتاء تدعو لنشر التصوف الصحيح أصدر مرصد الفتاوى الشاذة والتكفيرية التابع لدار الإفتاء المصرية، تقريرا بعنوان «التصوف الصحيح ودوره فى مواجهة التطرف»، دعا فيه لنشر التصوف الصحيح وتفعيل دوره فى مواجهة التطرف والإرهاب، مؤكدا أن الصوفية الصحيحة مثلت فى فترات تاريخية واسعة وخصوصا فى أوقات الأزمات أبرز صور الفاعلية الدينية والسياسية والاجتماعية للإسلام وحفظ استقلال واستقرار الأوطان وبث الطمأنينة والسلام فى المجتمعات.

وأوضح «المرصد» أن التصوف الصحيح لديه إمكانات كبيرة فى المعركة ضد الإرهاب والتطرف دفاعًا عن صحيح الدين وصورته الحقيقية، وعن الدولة ككيان جامع لآمال مواطنيها وحامية لأمنهم ومستقبلهم، وكذلك عن المجتمع وسلمه الأهلى وتعايشه السلمى، حيث تعد الصوفية ساحة كبيرة وممتدة لجذب الشباب الطامح لبذل الجهد والطاقة فى سبيل خدمة دينه ووطنه بعد أن أدرك خواء التنظيمات الإرهابية والمتطرفة التى لا همَّ لها سوى الاستيلاء على السلطة والحكم فى العديد من البلاد العربية والإسلامية. وأشار مرصد الإفتاء إلى أن الصوفية تحمل خطابًا روحيًا وتربويًا أساسيا فى مواجهة الإرهاب والتطرف، فهى ترقق القلوب وتشغل الفراغ الروحى وتمثل مجالا لاجتذاب طاقات الشباب العطشى إلى تجارب روحية لاستثمار ميل بعضهم لهذه التجارب، بعد أن ملوا ثقل الحياة المادية سواء أصابوا حظا منها أو لم يصيبوا.

ولفت المرصد إلى أن الصوفية بمصر تتمتع بقبول اجتماعى واسع بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية والاقتصادية والعمرية، حيث يدور منهجها حول تهذيب النفس والسمو بها لتحقيق مراد الله من حيث العبادة والتزكية والعمران ويدور منهجها أيضا حول مفاهيم الإصلاح، والمصلحة، والعرف الاجتماعى، وتحقيق منافع الناس بينما ركزت جماعات الإسلام السياسى على فكرة الدولة الموازية والمجتمع الموازى وامتلاك السلطة والحكم والقوة السياسية.

وشدد التقرير على أن مناهج التصوف الحقيقى عبر التاريخ مثلت كائنات حية ظهرت وتشكلت ونمت مع المجتمع، ومن خلاله فى لُحمة طبيعية لا يستطيع أحد أن يفصل بينهما، أو أن يحدد لأى منهما مسارا تاريخيا مختلفا عن الآخر.

وبين أن المجتمع، وخاصة الشباب، فى أشد الاحتياج لعديد من قيم التصوف فى مواجهته للتطرف والإرهاب، والتى يأتى فى مقدمتها المحبة لله ورسوله وللمجتمع والإنسانية ككل، باعتبار أن الإنسان بنيان الرب عز وجل، مشددا على أن هذه القيم تمثل زاداً حقيقياً فى مواجهة قوى الإرهاب والتطرف التى انحرفت عن دين الله وسنة نبيه الكريم وأساءت إلى الإسلام ونفرت منه. ودعا للاهتمام بنشر ثقافة التصوف الصحيح بين الشباب ودعمهم فى ذلك المجال من خلال أنشطة دينية وثقافية وترفيهية لهم خصوصا فى القرى والأحياء الشعبية والعشوائيات لتحقيق التوازن النفسى لدى الشباب بين نزعته الفردية المتمركزة حول خلاصه الفردى واهتمامه بالشأن العام الجماعى، بعيدا عن الصراع على السلطة من خلال القيام بأنشطة حول مخاطر التطرف والتشدد والإرهاب، بحيث يصبح التصوف الصحيح طاقة أمل للشباب، بعيدا عن التطرف على الجانبين، الإرهاب والإلحاد.

التصوف والسياسة يرى الدكتور أسامة السيد الأزهرى، مستشار رئيس الجمهورية والأستاذ بجامعة الأزهر أن هناك علاقة دقيقة بين التصوف بما يمثله من صفاء ونقاء وخلو مع الله تعالى، وبين السياسة بما فيها من ذكاء ومراوغة، وهى تحتاج إلى دراسة موسعة وجادة.

وأكد الأزهرى، فى محاضرة له بعنوان «الدين والسياسة من المنظور الصوفى» أن التصوف لا يقوم على الخلوة والجهل والابتعاد عن شأن الناس، وهناك الكثير من الأمثلة التاريخية التى تدلل على عدم اعتزال الصوفية للسياسة، فالأمير نور الدين زنكى كان من أهل التصوف، وكذلك السلطان محمد الفاتح، والشريف أحمد السنوسى، والملك إدريس السنوسى آخر ملوك ليبيا كان يحفظ البخارى وكان يجيز فيه العلماء، والأمير عبدالقادر الجزائرى، وأمثلة أخرى كثيرة جدًا.

وأوضح الأزهرى أن تعامل الصوفى مع السياسة يجب أن يسبقه معرفة الواقع وفهمه فهمًا جيدًا، ثم ينظر إلى هذا الواقع لتدبر القوانين الإلهية التى تسيره، وبعد ذلك يمكنه من الخوض فى الشأن السياسى على بصيرة وفهم ودراية، ولذلك يجب ألا يخوض فى الشأن السياسى إلا من لديه معرفة بالواقع، وخبرة كافية بما سيتكلم فيه.

وقال الدكتور محمد مهنا، عضو المكتب الفنى لشيخ الأزهر، والمشرف على الرواق الأزهرى فى ذات المحاضرة: «إن إصلاح الأمة لا يمكن أن يتم إلا بأن يصلح كل إنسان نفسه أولًا، وهذا هو منهج التصوف، ولقد أصيبت الأمة فى مقتل عندما فقدت قيمة التصوف الذى يرسخ منظومة القيم والمبادئ والأخلاق، فالأمم تنهار بانهيار منظومة القيم والأخلاق فيها».






الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;