كانت الساعة السادسة صباح 19 مايو، مثل هذا اليوم عام 1798، حين أصدرت بارجة «لوريان»، أى «الشرق»، الفرنسية، أوامرها بالإقلاع إلى سفن الأسطول الفرنسى الذى تجمع فى ميناء «طولون»، وفى الساعات الثمانى التالية، مرت مئة وثمانون سفينة فى الطريق إلى جهة لم يعرفها غير حفنة من الرجال، حسبما يذكر «ج. كرستوفر هيرولد»، فى كتابه «بونابرت فى مصر»، ترجمة فؤاد أندرواس، مراجعة، دكتور محمد أنيس.
كان «نابليون بونابرت» tعلى ظهر البارجة، ووقف يرقب السفن وهى تنساب أمام بارجة القائد وتحييها فى أثناء عبورها، وكانت الحملة فى الطريق إلى مصر للاستيلاء عليها، تنفيذا لتقرير رفعه نابليون قائد الجيوش إلى الإدارة يطالب فيه بالاستيلاء على مصر لقطع شريان الحياة بين إنجلترا والهند، غير أن هذه الحملة كانت تمثل لنابليون طموحا خاصا يعبر عنه سكرتيره الخاص «فوفليه دبوريين» فى مذكراته قائلا: «حين رحل بونابرت إلى مصر كانت تملأ جنبيه أطماع جديرة بالإسكندر الأكبر»، ونقل عنه قوله: «ليست أوروبا سوى تل صغير حقير، كل شىء هنا يبلى مع الزمن، لقد انقضى ما كسبت من مجد، وأوروبا الصغيرة هذه لا تتيح مجالا كافيا للأمجاد، فلابد إذن من الذهاب إلى الشرق، لأن كل مجد صغير لم يظفر به أصحابه إلا فى الشرق»، وفى سنواته الأخيرة بمنفاه فى «سانت هيلانة» قال: «كنت أشعر يومها أن الأرض تجرى من تحتى كأننى أحمل إلى السماء حملا.. فى مصر شعرت أننى أستطيع الاستسلام للأحلام الزاهية».
يذكر «هيرولد»، أن الحملة كان قوامها، ثلاث عشرة بارجة تحمل فيما بينها 1026 مدفعا، و42 فرقاطة ومركبا خفيفا وزورق بريد، و130 ناقلة من شتى الأنواع، و17 ألف جندى على ظهر هذه السفن والناقلات ومثلهم من الملاحين والجنود البحريين، وأكثر من ألف قطعة ذخيرة، و567 عربة و700 حصان، وكان من المقرر أن ينضم إلى الأسطول قبل وصوله ثلاث قوافل أخرى ليبلغ مجموع السفن 400 ألف، والرجال 55 ألفا.
يضيف «هيرولد»: «خطب نابليون فى العسكريين يوم 10 مايو، أى قبل بدء الحملة بتسعة أيام قائلا: أيها الضباط والجنود، لقد حضرت منذ عامين لأتولى قيادتكم، وكنتم يومها على ساحل ليجوريا تعانون القافة والعوز فى كل شىء، حتى لقد بعتم ساعاتكم لتشتروا ما تحتاجون إليه، وقد وعدتكم أن أقضى على هذا الحرمان، وقدتكم إلى إيطاليا، حيث أعطيتم كل شىء بسخاء، فهل بررت بوعدى لكم؟.
أجاب الجنود بصيحة واحدة: نعم»، ثم واصل بونابرت خطابه قائلا: «حسنا، دعونى أخبركم أنكم لم تفعلوا بعد للوطن، ولا فعل الوطن لكم ما فيه الكفاية، وإنى الآن قائدكم إلى بلد تفوقون فيه بأعمالكم المقبلة ما قمتم به إلى الآن من أعمال تدهش المعجبين بكم، وستؤدى للجمهورية خدمات يحق لها أن تنتظرها من جيش لا يقهر، وأنى أعد كل جندى أن يحصل عند عودته لفرنسا على ما يكفيه لشراء ستة أفدنة من الأرض»، مضى الخطاب على هذا النحو دقيقة أو دقيقتين، تلته هتافات «تحيا الجمهورية الخالدة»، وأناشيد وطنية.
احتل الأسطول من ميلين إلى أربعة عرض البحر، وحين وصل، «كان مشاهدوه من البر لا ينظرون بحرا، بل سماء ومراكب»، وعن وقائع الرحلة التى كان من المتوقع أن تستغرق إلى مصر نحو ستة أسابيع، إذ أخذ فى الحسبان الاستيلاء على جزيرة مالطة، يذكر «كرستوفر هيبرت»، فى كتابه «المرأة فى حياة نابليون»، ترجمة عمر سعيد الأيوبى: «لم يغادر نابليون حجرته معظم الوقت، ولم يعان من دوار شديد كما كان يخشى، لكن معظم الجنود المحشورين فى الأسفل أصيبوا بدوار البحر، وازدادت محنتهم سوءا بتناول المياه غير الصالحة والبسكويت المسوس».
يضيف «هيبرت»: «كان نابليون قد أحضر معه مكتبة كبيرة، وكان صديقه لويس أنطون بوريان، يقرأ له فى معظم النهارات من كتب التاريخ، لا سيما تاريخ العالم الإسلامى، وذات يوم سأل يوجين دى بوهارنيه، والجنرال برثييه، عما يقرآنه، وانزعج عندما علم أنهما يستمتعان بقراءة قصة، فقال لهما غاضبا: قراءة تليق بخادمات الغرف، على الرجال أن يقرأوا التاريخ فقط»، وفى المساء كان يتحدث فى كل المواضيع الأخرى مع ضباطه الكبار، ويبحث معهم السياسة، والسياسة الخارجية الفرنسية، والحرب والدين وتفسير الأحلام، وعمر العالم وكيف يمكن تدميره، وهل توجد حياة فى مكان آخر من الكون أم لا؟.