قبل خمسة أيام من رحيله، وتحديدا فى يوم الجمعة «22 مايو 1964» عقد الزعيم الهندى رئيس الوزراء «نهرو» مؤتمرا صحفيا فى العاصمة الهندية «نيودلهى»، وفاجأه أحد الصحفيين بسؤال: «من الشخص الذى يحتمل أن يكون خليفة لك؟».. أجاب على الفور: «إن حياتى لن تنتهى بهذه السرعة»، حسبما تذكر جريدة «الأهرام» يوم 28 مايو 1964.
وفى يوم 27 مايو، مثل هذا اليوم عام 1964، توفى الزعيم الهندى الكبير، وفى مانشيتها الرئيسى يوم 28 مايو 1964، كتبت جريدة الأهرام: «مات نهرو»، وأضافت: «فى الساعة السادسة «بتوقيت الهند» صباح أمس، أصيب زعيم الهند بنوبة شلل أعقبتها نوبة قلبية لفظ أنفاسه الأخيرة بجانب ابنته «أنديرا»..
و«جثمان نهرو يحرق صباح اليوم على ضفاف نهر» جومتا «طبقا للطقوس الهندوكية»، والجماهير الحزينة تقتحم حديقة دار نهرو رغم الحصار المفروض عليها وتولول باكية زعيم الهند، والرئيس جمال عبدالناصر يقول: «إن حياة نهرو ستبقى إلى أزمان وأجيال شعلة تضىء الطريق للهند ولآسيا وللإنسانية».
كان من اللافت أيضا، ووفقا للأهرام، أن السفير الهندى فى القاهرة «عظيم حسين» كان فى طريقه صباح يوم الوفاة لمقابلة رئيس وزراء مصر «على صبرى» ومعه وفد «الصداقة الهندى، بعد لقاء مع وزير الخارجية محمود رياض.. كان «السفير» سيسلم نص رسالة عاجلة تلقاها من «نهرو»، وتتضمن أنه سيأتى إلى القاهرة 5 يوليو 1964 للاجتماع بالرئيس جمال عبدالناصر، وسيقضى معه يوما كاملا قبل أن يستكمل سفره إلى لندن للاشتراك فى مؤتمر «الكومنولث»، غير أن السفير فوجئ عند مدير مكتب على صبرى بإشارة تليفونية له تؤكد نبأ الوفاة للزعيم الذى ولد عام 1889، وأصبح رئيسا للوزراء عام 1947، ومن وقتئذ، ووفقا للكاتب الصحفى حسن فؤاد فى تحقيقه الخاص عنه المنشور بالأهرام يوم 28 مايو: «أصبح أمام شعبه وأمام العالم وأمام التاريخ ذاته، صانع الهند الحديثة «570 مليونا وقت وفاته».. يضيف فؤاد: «إذا كان المهاتما غاندى هو الزعيم الروحى للهند فإن نهرو هو زعيمها السياسى، فقد تمثلت فى غاندى روح الهند العريقة التى نظمت الملايين ودفعتها فى حركة جماهيرية شاملة إلى الزحف نحو الاستقلال، ثم جاء نهرو لكى يصبح أول رئيس وزراء للهند المستقلة ليحمل على كاهله مهمة صيانة تثبيت الاستقلال بعد أن أمضى الجانب الأكبر من حياته السابقة فى أعمال الكفاح والمقاومة، وظل معتقلا سنوات طويلة».
ارتبط «نهرو» بعلاقة خاصة مع جمال عبدالناصر، وكان الاثنان بالإضافة إلى الزعيم اليوغسلافى «تيتو» الزعماء الساطعين فى سماء تأسيس حركة «الحياد الإيجابى» عام 1955 وقيادتها، ثم تحويلها إلى «حركة عدم الانحياز».. يرصد الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «عبدالناصر والعالم» بداية علاقة نهرو وعبد الناصر وتطورها منذ اجتماعهما سويا للمرة الأولى فى القاهرة يوم 15 فبراير1955، كان عبدالناصر فى السابعة والثلاثين من عمره ، ونهرو فى الرابعة والستين، وبالرغم من فارق السن، إلا أن كلا منهما ترك فى الآخر أثرا عميقا وقويا.. يذكر هيكل: «كانت الرابطة التى قامت بينهما تمثل فى سرعتها وعمقها وقوتها حبا من النظرة الأولى، وكما يحدث فى كثير من الأحيان، قامت هذه الرابطة بين شخصين مختلفين تماما.. كان عبدالناصر ضخم القامة قويا، وكان رجلا عمليا، أما نهرو فكان هزيل البنية نحيفا، وكان رجل فكر».
يتأمل هيكل شخصية نهرو، قائلا: «كان متأثرا بالأفكار الإسلامية..هندوكى ولد فى مدينة «أحمد أباد»الإسلامية، وشب فكريا وهو قريب الصلة من الإسلام، كان يتكلم مطولا عن الفلاسفة المسلمين، وكان مبهورا بالتاريخ الإسلامى»..يرى هيكل: «ربما كان إحساسه بالتاريخ هو الذى أمده بموهبة النظرة العميقة الواسعة، وكانت لديه الحاسة القادرة على استيعاب وحدة العالم ووحدة التاريخ، وعندما كانت تعترضه مشكلات كان يرتد لاجئا إلى التاريخ منقبا عن تفسير لها فى أصوله، وكان «تيتو» يمزح معه قائلا:«مع نهرو كل شىء يبدأ قبل الميلاد».
يؤكد هيكل: «وجد عبدالناصر فى نهرو الرجل القادر على التفكير، القادر على أن يتفحص المشكلة من جميع جوانبها ويناقشها، ويستنتج بأسلوب منطقى جذرها وأصولها وآثارها، والحل الملائم لها، كان ذلك الجانب هو التفكير العقلانى فى نهرو، الذى استهوى عبدالناصر، وكان نهرو من جهته يحس تجاه عبدالناصر إحساس الأب تجاه ابنه، وكما هى العادة مع معظم الآباء، فقد كانت فى ابنه أشياء تثير إعجابه وتخيفه فى الوقت ذاته.. كان معجبا بجرأة عبدالناصر، ولكنه كان يرتاع منها ويخشاها.. وكان فخورا بقدرة عبدالناصر على العمل، ويغبطه عليها، ولكنه كذلك كان يتخوف منها كأب مفكر مثقف، يتجه ابنه نحو هواية تسلق قمم الجبال».