كلف جمال عبدالناصر، الضابط فتحى الديب، بإعداد خطة لتحرك ثورة يوليو، عربيا، على أن تتضمن ربط الوطن العربى بكل ساحاته بالقاهرة، وفقا لما يذكره «الديب» فى كتابه «عبدالناصر وتحرير المشرق العربى»، مؤكدا أن هذا التكليف كان فى نهاية أكتوبر 1952، وبعد أسبوع عاد «الديب» بخطته، وكانت إحدى وسائلها الاهتمام بالتجمع الطلابى العربى فى مصر.
يذكر «الديب» أن عدد الطلاب العرب فى مصر وقتئذ تجاوز 35 ألف طالب، موزعين على الجامعات والمعاهد المصرية والمدارس الثانوية، وعدد ضخم فى الأزهر الشريف، وبواسطة «إدارة الوافدين» بقيادة محمد عثمان، تمكنوا من تحديد مراكز التجمع الرئيسية لهؤلاء الطلاب، والتعرف على نواديهم وقيادتهم النقابية، وقاموا بالاحتكاك المباشر معهم، والعمل على حل مشاكلهم، وبدأ الطلاب يلمسون عمليا آثار هذا التحرك فى حل مشاكلهم الدراسية، والاجتماعية.
يؤكد «الديب» أنهم تعرفوا على العناصر القيادية المؤثرة، وقاموا بتقييم التجمع الطلابى لكل قطر، ومدى تجاوبه مع أهداف ثورة 23 يوليو، وإيجاد صلات مستمرة بينهم وبرنامج «صوت العرب»، وتشجيعهم على تزويده بكل الأخبار والمعلومات عن أقطارهم عن اقتناع بأن هذه المساهمة هى تعبير عن إحساسهم بمسؤوليتهم الوطنية تجاه شعبهم، وتجسيدا لقناعاتهم بقوميتهم العربية.
يذكر «الديب» أنهم أجروا دراسة مستفيضة على نوعية هؤلاء الطلاب، وخلصت الدراسة إلى أنهم موزعون على ست فئات، هى فئة أبناء الأثرياء ممن أرسلتهم أسرهم للدراسة حفاظا على عروبتهم، وعددهم 5% من عدد الطلاب، وفئة أبناء الطبقة المتوسطة ممن لا تسمح مواردهم المالية للإنفاق على تعليم أبنائهم بالدول الأجنبية، ونسبتهم 10%، وفئة أبناء الطبقة المتوسطة من الأسر العربية الأصيلة التى تنظر إلى مصر باعتبارها مركز إشعاع علمى للوطن العربى، وفئة أبناء الطبقات الفقيرة الذى يقبلون أملا فى الاستفادة من نظام المنح المالية التى تعتمدها الحكومة المصرية سنويا للطلبة الوافدين، وفئة الطلاب الهاربين لأنه محظور فى بلادهم تلقى العلوم العصرية، كما فى اليمن ودول خليجية، والمجموعة الأخيرة للطلاب الهاربين من المناطق، التى يمنع الاستعمار فيها تدريس اللغة العربية مثل دول شمال أفريقيا خاصة الجزائر.
يكشف «الديب» أنه فى عام 1954 ومع اقتراب العام الدراسى من نهايته، وجد الفرصة سانحة لإتمام لقاء مباشر بين قائد الثورة «عبدالناصر» وأعضائها، وبين هؤلاء الطلاب، وجرى بالفعل هذا اللقاء خلال شهر رمضان، حيث تم الاتفاق على أن يدعو صلاح سالم وزير الإرشاد القومى، نحو ألفى طالب للإفطارمع «عبدالناصر» وأعضاء مجلس قيادة الثورة فى نادى الضابط بالزمالك يوم 29 مايو، مثل هذا اليوم، 1954، وتم تكليف المذيع أحمد سعيد رئيس «صوت العرب» بإقامة حفل ترفيهى يحييه فنانون عرب.
يتذكر «الديب» أنه بعد الانتهاء من الإفطار، ارتجل «عبدالناصر» خطابا عربيا، كان نصه: «إخوانى الأحرار، أشكر لكم هذه الفرصة التى أتاحت لخيال كنت أتخيله دائما أن يكون حقيقة واقعة.. كنت أتخيل دائما الوطن العربى والقوة العربية، ولم تسمح لى الفرصة للاجتماع بالعرب، حتى أتيحت لى اليوم، فماذا شعرت؟.
الحقيقة أننى لم أتمكن من التفرقة بينكم، أى بين الجزائرى والعراقى أوبين الأردنى والسورى، ولم أتمكن من أن أفرق بين الأسماء والأقطار، فكلكم اجتمع تحت اسم واحد هو العروبة، وشعرت فى الوقت نفسه شعورا قويا بالأخوة لكم، لأنى أخ يقف بين أخوته.. أخ فى الدين، وفى القومية العربية، والمشاعر والأهداف، لهذا فإنى أشكركم وأشكر أخى صلاح سالم، لأنكم استطعتم أن تجعلوا من الحلم حقيقة، ولا يسعنى فى الوقت نفسه إلا أن أتمثل قول الشاعر: «إلام الخلف بينكمو إلام؟..وهذى الضجة الكبير علام؟».
نعم لم هذه الضجة الكبرى، ولم هذه التفرقة بين العرب.. فإننا إذا نظرنا إلى الماضى وجدنا التاريخ يربط العرب بالوحدة، هذه الوحدة التى أقلقت العالم، فأراد الاستعمار استعباد العرب، والقضاء على قوميتهم فلم يتمكن.. هذا الاستعمار الذى لم يتمكن من التفرقة بيننا برسم الحدود وتخطيطها، فجاء يعمل لها بالسيف، ويحاولون اليوم الدخول فى تجربة أخرى هى استعمال الدسيسة والخداع بين شعوب العرب، لقد مزقوا وقطعوا أوصال العرب بعد الحرب العالمية الأولى، وجاءوا بعد الحرب العالمية الثانية فأنشأوا إسرائيل، ثم بثوا الأحقاد والضغائن بين الأمم العربية، وكنت أحارب فى فلسطين، وأسمع أن أحد الجيوش العربية انسحب، فكنت أحقد على الاستعمار لأنه هو الأصل فى هذا الانسحاب، وكان شعور العرب فى قراهم متفقا مع شعورى فى الخندق، وهم لو استطاعوا مشاركتنا فى الدفاع والقتال ما تأخروا بأية وسيلة».
يؤكد «الديب» أن هذا اللقاء وما تلاه من اهتمام أدى إلى أن يكون كل طالب وافد فى مصر داعية لثورة يوليو وأهدافها فى بلده.