لجأ المماليك الناجون من مذبحة القلعة التى نفذها محمد على باشا فى بداية مارس 1811، وراح ضحيتها 1200 منهم إلى النوبة ودنقلة، حسبما يأتى فى كتاب «إدريس أفندى فى مصر.. مذكرات الفنان والمستشرق الفرنسى «بريس دافين»، المولود فى فرنسا عام 1807، وأصبح مهندسا معماريا، ثم حضر إلى مصر عام 1829 ليلتحق بخدمة محمد على باشا مهندسا للرى فى بادئ الأمر، ثم أستاذا للطبوغرافية فى مدرسة أركان الحرب بالخانكة، وفى الوقت نفسه مربيا لأبناء إبراهيم بن محمد على.
قضى «بريس» فى مصر 17 عاما تعرض خلالها للسجن، وفقا لمذكراته التى قدمها وجمعها وترجمها عن الفرنسية الدكتور أنور لوقا، الذى يذكر فى مقدمته: «أحب بريس المصريين وفهم مشاكلهم، وميز جوهر صفاتهم تحت الأسمال التى ألقاها عليهم الحاضر المظلم، وتعمق مجتمعهم، وتأمل تفاصيل حياتهم، وتكلم لغتهم واهتم بماضيهم، واستقال عام 1836، وتحرر من القيود الرسمية، وتفرغ لدراسة «الهيروغليفية» ليجتلى تاريخ هذا المجتمع الذى يعيش فيه، وارتدى الزى الشرقى، وسمى نفسه «إدريس» بدلًا من «بريس»، وجاب قرى مصر متنقلًا من الدلتا إلى الصعيد بين الفلاحين، ومن الصعيد إلى النوبة والجميع يأنسون إليه ويلقبونه بـ«إدريس أفندى».
يتميز حكم محمد على فى مذكرات «إدريس أفندى» بطابع القسوة والظلم والإرهاب.. ينقل مناظر تعذيب أفراد الشعب، ويؤكد أنه كان تعذيبا رسميا منظما، ويتكرر فى كل يوم وفى كل قرية وفى كل مدينة، بل وفى أسواق القاهرة، ويذكر أن الفلاحين أطلقوا على «محمد على» لقب «ظالم باشا» لفرط ما نالهم من التعذيب على أيدى مأموريه، فمن الكى بالقرميد الأحمر المحمى فى النار إلى تسمير آذانهم، إلى تمزيق أجسامهم بالكرباج.
يذكر «إدريس» تفاصيل «مذبحة المماليك الثانية» التى ارتكبها «إبراهيم باشا» ضد الفارين من مذبحة القلعة.. يقدم ملامح شخصية إبراهيم باشا قائلا: «كل ما يبدو لك من خلقة إبراهيم باشا ينبئ عن رجل سوقى، قامة قصيرة، وحركات مفاجئة، ووجه انتشرت فيه نقط حمراء، ونقره الجدرى، وعينان رماديتان ترتفعان عند الزاوية الخارجية، وثغر مبتسما دائما يضفى على وجهه الصغير مظهرا مرحا.. طبيعته فاترة، ولكنك إذا أضحكته بشىء من التهريج رجع بسهولة عن حدة غضبه، وكان نزقا عنيدا، حذرا، يتوجس من كل شىء، قاسيا، مسرفا فى الانتقام.. كان يحب الانتفاع، فلا يدخر وسيلة لتكريس كل ما يطيب له، وبلغ من تكالبه على الكسب أنه أثناء حياة والده كان يزاول التهريب ويسرب إلى القاهرة «تمباك» مزارعه التى كانت فى «القبة».. كان يتكلم كثيرا كلاما ردىء العبارة خاليا من كل علم، والويل لمن كان يجرؤ على أن يتنقص ما يقول أو أن يقدم بعض الاعتراضات على مشروعاته، ولا يكاد يعرف القراءة والكتابة إلا فى مشقة، ويضيف إلى هذه الذخيرة من الجهل غرورا وكبرياء لا تطاق».
وعن «مذبحة المماليك الثانية»، يذكر «إدريس أفندى» أن الذين فروا من مذبحة القلعة التجأوا إلى النوبة ودنقلة، واضطروا مكروبين من ناحية بعقبات الطبيعة، ومن ناحية أخرى بتعقب «إبراهيم» لهم، إلى أن يلتمسوا المأوى فى الجبال التى يقطنها العبابدة والبشارية، وأجبرتهم هذه القبائل على أداء ثمن باهظ عن تلك الضيافة، وأنفق البكوات لإمداد جنودهم بالقوت اللازم فى قلب تلك الصحراء جميع ما ملكت أيديهم، ورغم التضحية بذخائرهم هلكت جميع جيادهم من قلة الغذاء، وهلك كثير من رجالهم نتيجة لشدة الحرمان.
يؤكد «إدريس» أنه مع صعوبة الحياة أمام هؤلاء المماليك، قبلوا أن يستمعوا إلى عرض الصلح الذى أرسله إبراهيم مع مندوبين له، ولم يشمل وعدهم بسلامة حياتهم فقط، وإنما إعادتهم إلى المناصب التى فى مستوى رتبهم، وأن يرد لهم ممتلكاتهم، شرط أن يعترفوا بحكومة محمد على.. يذكر «إدريس»: «خلبت هذه الوعود نحو 400 مملوك فأنستهم الدرس القاسى الذى تلقوه منذ عام خلا، وكان على رأسهم بكوات مختلفون، فقبلوا المقترحات، وفى نهاية مايو، مثل هذا اليوم، عام 1812 نزلوا من الجبال قوافل صغيرة واتجهوا نحو «إسنا» حيث كان مقر قيادة إبراهيم، فلما اجتمعوا ورأى ابن محمد على أنه لا ينبغى انتظار قدوم آخرين تستدرجهم تلك الوعود المغرية، أصدر أمره بالإجهاز على أشتات هؤلاء الجند الذين كانوا ذوى صولة فيما مضى، وفى ليلة واحدة ذبحوا جميعًا بلا رحمة، ولقى مائتا عبد أسود مصير سادتهم».
يؤكد «إدريس» أن وساطة قام بها طبيب إبراهيم وكان فرنسيا، أنقذت مملوكين فرنسيين من هذه المذبحة الرهيبة، ويذكر أنه التقى بمملوك آخر فى إسنا يدين بنجاته من هذه المذبحة إلى ما كان عليه من الصبا والجمال.