تأهب الفرنسيون لدفن قائدهم «كليبر» وتنفيذ حكم الإعدام فى قاتله سليمان الحلبى يوم 17 يونيو، مثل هذا اليوم، عام 1800، بعد ارتكابه جريمته يوم 14 يونيو «راجع، ذات يوم، 15 و16 يونيو 2021».
يصف عبدالرحمن الجبرتى، الموكب الحافل لجنازة كليبر، قائلا فى الجزء الخامس من موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: «نادوا ليلة الرابع من قتله فى المدينة بالكنس والرش فى جهات حكام الشرطة، فلما أصبحوا اجتمع عساكرهم وأكابرهم وطائفة عينها الأقباط والشوام، وخرجوا بموكب مشهده ركبانا ومشاة، ووضعوه فى صندوق من الرصاص مغطى بالقطيفة السوداء ووضعوا ذلك الصندوق على عربة، وعليه برنيطته وسيفه والخنجر الذى قتل به وهو مغموس بدمه، وعملوا على العربة أربعة بيارق صغار فى أركانها معمولة بشعر أسود، ويضربون بطبولهم بغير الطريقة المعتادة، وعلى الطبول خرق سود، والعسكر بأيديهم البنادق، وهى منكسة إلى أسفل، وكل شخص منهم معصب ذراعه بخرقة حرير سوداء، ولبسوا ذلك الصندوق بالقطيفة السوداء وعليها قصب مخيش، وضربوا عند خروج الجنازة مدافع وبنادق كثيرة وخرجوا من بيت الأزبكية إلى درب الجماميز إلى جهة الناصرية، فلما وصلوا إلى تل العقارب حيث القلعة التى بنوها هناك، ضربوا عدة مدافع، وكانوا قد أحضروا سليمان الحلبى والثلاثة المذكورين، فأمضوا فيهم ما قدر لهم «تنفيذ الحكم بإعدامهم» ثم ساروا بالجنازة إلى أن وصلوا إلى باب قصر العينى، فرفعوا ذلك الصندوق، ووضعوه على علوة من التراب بوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك، وعملوا حولها درابزين وفوقه كساء أبيض، ووزعوا حوله أعواد سرو، ووقف عند بابها شخصان من العسكر ببنادقهما ملازمين ليلا ونهارا، يتناوبان الملازمة على الدوام».
شهدت الأيام الثلاثة بين مقتل كليبر وجنازته، رعبا وفزعا وخوفا بين أهل القاهرة، وفقا للدكتور محمود متولى فى كتابه «مصر وقضايا الاغتيالات السياسية»، مضيفا: «خشى علماء الأزهر من انتقام السلطات الفرنسية منهم، فطلبوا الإذن من السلطات الفرنسية العسكرية بإقفال الجامع، فأذن لهم الجنرال مينو حيث سمروا أبوابه، وظلت مغلقة، ولم تفتح من جديد إلا يوم 2 يونيو 1801»، ويذكر «كروستوفر هرولد» فى كتابه «بونابرت فى مصر» ترجمة، فؤاد أندراوس: «ظلت طلقة مدفع تسمع من القلعة مرة كل ثلاث دقائق طوال أيام ثلاثة عقب موت كليبر».
وعن تنفيذ حكم الإعدام فى سليمان الحلبى وأعوانه، يذكر متولى: «قطع بارتملى رؤوس الشيوخ الثلاثة، وقبل ذلك كان يحمى الفحم فى حجرة ووضعت يد سليمان فى النار لكى تشوى، ولم يشك سليمان ولم تظهر عليه بوادر الألم أو الخوف، ولكن عندما حاول «بارتملى» أن يشوى المرفق أيضا إلى جانب اليد صاح به سليمان، بأن الحكم لم يذكر المرفق».. يضيف متولى: «سجل جاويش فى الحملة الفرنسية «يدعى فرانسوا» ما حدث تماما بالنسبة لسليمان لأنه كان مرافقا لما يحدث بدقة وعلى بعد خمس خطوات، ولما تم الحرق لليد اليمنى رفع بارتملى الرومى الخازوق قائما بعد أن وضع عليه سليمان ثم غرسه فى الأرض، وطلب سليمان من جندى فرنسى واقفا بقربه شربة ماء، وكاد أن يفعل الجندى لولا أن منعه الجلاد بارتملى الرومى لأنه قال إن أقل شربة ماء كفيلة بقتله فورا، ومن ثم لا قيمة للحكم».
يضيف «متولى»: «رغم وضع سليمان فوق الخازوق إلا أنه بدأ يصلى، وبعد ساعات أسلم الروح، ونفذ الحكم عند تل العقارب على مشهد من الجنود الفرنسيين وأعيان المدينة، وقام كبير الجراحين الفرنسيين المدعو «لارى» بتشريح جثته بعد إعدامه، واستبقى هيكل رأسه ونقله إلى غرفة التشريح بمدرسة الطب بباريس، كما أن الخنجر الذى قتل به كليبر محفوظ فى مدينة «كاركاسون» بفرنسا، وأودعه سكرتير كليبر «بيروس» بعد عودته من مصر».
يسجل «متولى» ملاحظات على هذه القضية، مؤكدا بربرية الفرنسيين فى تنفيذ حكم الإعدام فى سليمان على النحو الذى تم به، لأن هذه العقوبة لم تكن لتتفق مع مبادئ الجمهورية الفرنسية المستنيرة، وإن كان الفرنسيون أكدوا أن هذه العقوبة تسمح بها تقاليد الحكم فى البلاد «أى فى مصر».. ويرى قسوة الحكم بإعدام المشايخ شركاء القاتل، لأن المحكمة أحيت قانونا فرنسيا عفا عليه الزمن، حيث ادعت أن من يمتنع عن التبليغ عن مؤامرة تدبر ضد سلامة الدولة أو ضد الأمراء والحكام يعتبر شريكا للفاعل الأصلى، أما الحكم ببراءة الشيخ مصطفى أفندى فيراه «ذرا للرماد لأنه شيخ فى الحادية والثمانين، والحكم عليه بالإعدام كان سيخلق منه أسطورة ويجعله بطلا فى نظر شعبه، ومن ثم رأت المحكمة أن تتظاهر بعدالتها بأن تحكم عليه ببراءته».