كثيرون تناولوا خبر شهادة محمد حسين يعقوب بمزيد من السخرية، قابلوها بالضحكات على هذا الداعية الذي كان من أكثر الناس تأثيرا في مصر ذات يوم، كان يصول ويجول مثل الأسود، كان يحرك الآلاف بإشارة من اصبعه، فإذا به يتحول إلى حقيقته الهينة أمام القضاء المصري الشامخ، يظهر في ثوبه الحقيقي تاركا هالات القداسة التي كان يحيط نفسه بها على أبواب المحكمة، تمثال من الشمع ذاب أمام عين الحقيقة، هرم من الجليد ساح أمام قاض جليل كان استجوابه له علامة فارقة بين من يملك العلم ومن لا يملكه.
كثيرون سخروا، كثيرون ضحكوا، كثيرون تندروا وتعجبوا وتشفوا، لكني لم أشعر أبدا بأن هذا الموقف يستوجب السخرية، لكنه يستوجب الحزن، بدا محمد حسين يعقوب في هذه الشهادة في حجمه الطبيعي، صغيرا متواريا خائفا، هذا الذي أفسد عقول النساء والشباب والأطفال يقول دون تردد "أنا جاهل" وحينما قال له القاضي الجليل "ظننا فيك أفضل من ذلك" قال "ربنا يغفر لي.
مع الحزن الذي شعرت به في كلمات محمد حسين يعقوب شعرت بالإهانة، فمصر بلد العالم والعلماء، بلد الليث بن سعد إمام فقهاء عصره، وبلد جلال الدين السيوطي الفقيه المحدث المؤرخ، البلد التي اختارها الشافعي وطاب له فيها المقام، والتي اختارها "العز بن عبد السلام" الذي أعز الإسلام، مصر بلد محمد عبده والشيخ المراغي، مصر بلد الإمام محمود شلتوت ومحمد أبو زهرة، مصر بلد رفاعة الطهطاوي وحسن العطار، مصر هذه الجميلة الراقية العظيمة السامقة التي أطلت بنورها على الجميع أتى عليها الزمن وسيدت هذا الرجل "العامي" على عقول أبنائها ومصائرهم، مصر التي كان تشع بنور الحقيقة، سمحت بأن يطفو على سطحها المزيفون.
إهانة ما بعدها إهانة، وأوجاع تشبه الطعنات، كيف سمحت مصر الموصوفة بالرقي الكامل والحضور الدائم، بأن يكون أمثال هذا الرجل من رموزها ومن نجومها في الإعلام والمساجد، مصر التي كانت في قديم الزمان تختار الصفوة من الصفوة لكي يظهروا للرأي العام ويوجهوا وجدان المواطنين نحو ما ينفع الناس ويمكث في الأرض اختارت في غفلة من الزمن أن يكون أمثال حسين يعقوب وجبة أساسية في مائدة العقل المصري.
بدا حسين يعقوب أمام القاضي الجليل صغيرا حقا، لا يعرف شيئا عما ادعى أنه عالم به، فجأة تحول من كان يطنطن بالقول "لحوم العلماء مسمومة" حينما ينتقده أحد إلى القول "أنا راجل من العباد ولست من العلماء" وكفى به خجلا أن يقول ردا على سؤال القاضي الجليل: في أي مجال من مجالات الدين قرأتم وتخصصتم أن يقول إن عمله الدائم وتخصصه هو كتاب: مدارج السالكين في شرح كتاب منازل السائرين إلى رب العالمين، وهو كتاب لابن قيم الجوزية في شرح كتاب أبو إسماعيل الهروي، ولك أن تتخيل معي أن الطالب الأزهري العادي يقرأ ويفهم ويختبر في مئات الكتب الشرعية موزعة ما بين الفقه والحديث والسيرة والتاريخ قبل أن يدخل الجامعة، دون أن يدعي أنه عالم أو يتجرأ على الظهور أمام الناس بثوب العلماء، لكن محمد حسين يعقوب ملأ الدنيا وشغل الناس لأنه في متخصص في كتاب واحد، وهو أمر يشبه تماما أن يدعي أحد الإحاطة باللغة الإنجليزية لمجرد أنه قرأ كتاب "تعلم الإنجليزية بدون معلم" ويتجرأ على تعليم الناس، بينما حملة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي يتوارون عن الأنظار محاطين بالتجاهل.
أنا جاهل، هل تأذن لي بالجلوس؟ أنا مش باحث في هذه المسألة، أنا كل مجالى فى علم القلوب والسير إلى الله، أنا أخاطب العوام، لا أعلم عن وجود فكر سلفى تكفيرى، وصدقا لا أعلم، فالسلفى سلفى والتكفيرى تكفيرى، حضرتك ممكن تسألنى عن أنصار السنة، أنا قرأت ابن كثير والطبري والقرطبي أنا خريج دار المعلمين "دبلوم معلمين" هذه عينة من ردود الشيخ محمد حسين يعقوب على القاضي الجليل الذي استجوبه ولو كان الأمر بيدي لأذعت تلك الشهادة ملايين المرات في كل وسائل الإعلام الممكنة لأنها شهادة تاريخية بكل ما يعنيه تاريخ الخذلان، وشهادة على عصر من الفوضى كان يجب له أن تنتهى، وأقتعة كان يجب لها أن تسقط، ومؤسسات دينية يجب أن تحاكم لسماحها بوجود مثل هذا الرجل.