كانت نازك الملائكة تستمع إلى صوت المذياع فى العراق، وهو ينقل أخبار اجتياح مرض الكوليرا لأهل مصر، والذى وصل خطره لدرجة أنه فى يوم واحد ارتفع عدد الضحايا إلى ألف ضحية، فاهتزت وهى فى العراق من هول الكارثة التى تعيشها مصر وتفتك بالمصريين، فأمسكت بقلمها يوم 27 أكتوبر عام 1947، وفى ساعة واحدة كتبت قصيدتها «الكوليرا» وتقول فيها: «سكن الليل/ أصغ إلى وقع صدى الإناث/ فى عمق الظلمة، تحت الصمت/ على الأموات، صرخات تعلو، تضطرب/ حزن يتدفق، يلتهب/ يتعثر فيه صدى الآهات».
نظمت نازك الملائكة قصيدتها بأسلوب الشعر الحر، الذى لم يعجب أمها أول الأمر وسألتها: «ما هذا الوزن الغريب؟.. إن الأشطر غير متساوية، وموسيقاها ضعيفة يا بنيتى»، ولم يختلف رد فعل الأب لكنه رد على ابنته ببيت شعر يقول فيه: «لكل جديد لذة غير أننى/ وجدت جديد الموت غير لذيذ»، لكن نازك غضبت وقالت بصوت عال: «قل ما تشاء، إنى واثقة أن قصيدتى ستغير خريطة الشعر العربى».
هكذا كانت محنة مصر مع مرض الكوليرا هى محور قصيدة «نازك» التى راهنت على أنها ستغير خريطة الشعر العربى، وبعد 53 عاما و7 شهور و23 يوما من كتابتها لـ«الكوليرا» ماتت فى أحد مستشفيات مصر عن عمر يناهز الـ84 عاما، ودفنت فى مقبرة الأسرة بالقاهرة إلى جوار زوجها الدكتور عبدالهادى محبوبة، حسب وصيتها وفقا لجريدة «الشرق الأوسط - لندن»، فى عددها يوم 22 يونيو 2007.
جاءت نازك الملائكة إلى مصر فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، فى وقت كان العراق يعيش تحت الحصار الدولى.. جاءت للإقامة الدائمة برفقة زوجها وابنها الوحيد «البراق»، ورفضت طوال هذه السنوات العودة إلى العراق، واختارت العزلة فى القاهرة والبعد عن المهرجانات الثقافية حتى أنها لم تحضر احتفالية تكريمها فى دار الأوبرا المصرية عام 1999، بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة مسيرة الشعر العربى الحر فى الوطن العربى.
فى تفاصيل رد فعل والديها على قصيدة «الكوليرا»، نجد أننا أمام بيئة أهلتها كى تكون ما وصلت إليه من نبوغ شعرى جعلها من رموز مجددى الشعر العرب فى القرن العشرين، وحسب الناقد عبدالجبار البصرى فى كتابه «نازك الملائكة - الشعر والنظرية»: «كان والدها السيد صادق الملائكة وقت ولادتها يوم 23 أغسطس 1923 يعمل مدرسا للغة العربية، وكان على مستوى جيد من الإطلاع الثقافى، ويقتنى مكتبة تضم كنوزا من الأدب العربى وشيئا من الفكر المعاصر، وأمها «سليمة عبدالرازق» تعرف بين أفراد أسرتها بسلمى وتوقع قصائدها بـ«أم نزار»، وولدت «سليمة» فى بغداد يوم 29 فبراير 1909 وعانت منذ طفولتها آلام اليتم وتزوجت وعمرها أربعة عشر عاما، وتلقت مبادئ القراءة والكتابة فى كتاب للإناث كان يجاور بيتها ثم تعهدها زوجها بالرعاية، فقرأت معه «جميل بثينة»، و«كثير عزة» والشريف الرضى وأبو فراس الحمدانى والبهاء زهير، وسواهم، وتأثرت بشاعرية الزهاوى ودفاعه عن حقوق المرأة وكانت تحب إلى جانب الشعر، الغناء والموسيقى».. ويعتبر الناقد رجاء النقاش فى كتابه «ثلاثون عاما من الشعر»، أن أسرة نازك مثقفة محبة للأدب، فيها عدد كبير من الشعراء منهم أبوها وخالاها عبدالصاحب وجميل، وأختها إحسان، وأخوها نزار.
فى هذه الواحة العائلية ولدت نازك، وتربت، وتعلمت فى الابتدائية ثم الثانوية وحصلت على شهادتها عام 1939، وبعد ذلك دخلت دار المعلمين العالية - كلية التربية - فرع اللغة العربية، وأنهت هذه الدراسة الجامعية سنة 1944، وانتسبت إلى معهد الفنون الجميلة لدراسة العزف على العود، ووفقا لرجاء النقاش: «سافرت إلى أمريكا ودرست فى بعض جامعاتها من 1951 إلى 1952 ومن 1954 إلى 1956، وهى شاعرة لم تعتمد أبدا على موهبتها الفطرية الكبيرة وحدها، بل كانت على الدوام تغذى هذه الموهبة بالقراءة والبحث واكتساب ثقافة واسعة فى التراث العربى والآداب العالمية المختلفة». ويؤكد النقاش، أن هذا الامتزاج بين الموهبة والثقافة هو الذى أعطى لنازك أهميتها الكبيرة فى الأدب العربى المعاصر، فهى أول شاعرة فى تاريخ الشعر العربى كله تصبح رأسا لمدرسة من أهم مدارس الشعر وأخطرها، وهى ما سمى باسم مدرسة «الشعر الحر».