استقبل العاهل المغربى محمد الخامس، عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، صباح «الخميس، 26 يونيو 1958 بالعاصمة الرباط»، فى اليوم الثالث لزيارته إلى المغرب التى بدأت 24 يونيو 1958.. «راجع، ذات يوم، 24 يونيو 2021».
كان المفكر والسياسى والمؤرخ المغربى عبدالهادى التازى، فى صحبة «العميد» طوال الزيارة، ويؤرخها فى كتابه «طه حسين فى المغرب».. ينقل عن الصحيفة الرسمية «العهد الجديد» ما ذكرته عن لقاء الملك.. قالت: «حظى الدكتور طه حسين إثر وصوله إلى الرباط بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم، وكان الدكتور مصحوبًا بمعالى رئيس الحكومة «أحمد بلافريج» وسفير الجمهورية العربية المتحدة، أسعد محاسن، وحضرها «أحمد بناتى مدير التشريفات، وعبدالكريم غلاب، رئيس قسم أفريقيا وآسيا بوزارة الخارجية، والسيد بومهدى رئيس القسم الثقافى بنفس الوزارة، وعبدالهادى التازى عن وزارة التربية الوطنية».
تضيف «البلاغ»: «خاطب صاحب الجلالة الزائر الكريم قائلا: «إننا نرحب فى شخصكم بعالم من أعلام الفكر العربى فى العصر الحاضر، والمغرب متشرفا بزيارتكم التى كان يتمناها منذ أمد طويل، لمشاهدة ما يبذله من جهود فى سبيل البناء والانبعاث».. أجاب الدكتور طه: «إنى متأثرًا جدًا يا صاحب الجلالة بهذه المقابلة التى أنعمتم علىّ بها، ولى الشرف العظيم بالمثول بين يدى جلالتكم أنتم الذين قدتم معركة التحريرفى المغرب، والكل يعترف بالفضل العظيم الذى طوقتم به جيد العروبة بكفاحكم واستبسالكم إلى جانب الشعب المغربى الأبى».
رد الملك: «نعتبر أن كل شخص مهما كانت مرتبته ينبغى له أن يؤدى واجبه فى هذا المضمار، والشعب المغربى يذكر ما قمتم به أيضًا من أعمال أثناء المحنة السياسية التى اجتازها المغرب، ولا تزال عالقة بأذهاننا مواقفكم ومقالاتكم فى الدفاع عن القضية المغربية، مما كان له أكبر الوقع والتشجيع للأمة المغربية فى جهادها، وزيارتكم هذه ستكون لها أكبر الفائدة للمثقفين المغاربة الذين يتعطشون لمناهل العلم فى البلاد العربية».
أنعم جلالة الملك على الدكتور طه، بأعلى درجة من وسام الكفاءة الفكرية، وكان أول من تقلد به، وفيما يذكر التازى، أن جمهورالمثقفين كان على موعد مع أول محاضرة للزائر الكريم بالمغرب فى نفس اليوم «26 يونيو 1958» بكلية العلوم، جامعة محمد الخامس، يذكر «الزبير الأمين» فى مقاله «محاضرة طه حسين فى تطوان» المنشور فى «بريس تطوان، 8 يوليو 2017» أنها كانت، الجمعة 27 يونيو، مثل هذا اليوم، 1958.
كان موضوع المحاضرة «الأدب العربى ومكانته بين الآداب العالمية»، وتقدم ولى العهد الأمير الحسن الحضور، يصف «التازى» المحاضرة، قائلا: «غصت القاعة على سعتها بالذين كانوا فى شوق بالغ إلى السيد العميد، وما زلت أذكر جيدًا أن الجمهورعلى سعته وتعدد اتجاهاته، ظل كأن على رأسه الطير كما يقولون، الكل رجالا ونساء يصيخ بسمعه إلى ما يقول الدكتور الذى قدمه الأستاذ عبدالكريم غلاب».
قال طه حسين فى محاضرته: «مرت على أدبنا العربى أطوارتستطيع فيها بحق أن تقرر أن هذا الأدب كان هو الأدب العالمى الممتاز فى عصر من عصوره، ذلك أن هذا الأدب لم يكد يخرج من جزيرة العرب حتى انتشر انتشارا رائعا، ولست أعرف فى اللغات القديمة لغة بلغت ما بلغته اللغة العربية من القوة والسعة والانتشار، والقدرة على السيطرة على العالم القديم فى أكثر أجزائه».
نعم كانت قبل اللغة العربية لغات قديمة أخرى انتشرت فى الشرق، وسيطرت على سياسته وإدارته وثقافته، لكنها لم تبلغ فى وقت من الأوقات أعماق الشعوب الشرقية، ولم تستطع أن تغير من نفوس الشرقيين ولا من لغاتهم شيئًا، وإنما فرضت نفسها سياسيًا فكانت لغة الحكام، وكانت لغة الإدارة ولغة الثقافة الرسمية، وظلت الشعوب تتكلم لغاتها الخاصة، فالأمة اليونانية فرضت سيطرتها على الشرق عشرة قرون، لكن الشعوب ظلت محتفظة بلغاتها الخاصة، فكان المصريون محتفظين بالقبطية، والسوريون وأهل الجزيرة والعراق محتفظين بالآرامية، وجاء الرومان بعد اليونان فلم تستطع لغتهم اللاتينية أن تنتشر فى الشرق بحال من الأحوال، وظلت الشعوب مع ذلك محافظة على لغاتها الموروثة، إلى أن جاءت اللغة العربية بعد الفتح الإسلامى فانتشرت ودون أن يتخذ السلطان العربى أية قوة لفرضها.. نظرنا فإذا هذه اللغة تنتشر شيئًا فشيئًا.. ولا تلبث أن تصبح اللغة العامة لكل البلاد التى فتحها المسلمون فى الشرق والغرب.
انتشرت بقوة القرآن، وبهذه القوة وحدها استطاعت أن تكون لغة عالمية لأول مرة وبأوسع معانى هذه الكلمة، لكن الأدب الجدير بهذه المرتبة هو الذى يستطيع أن يأخذ ويعطى ولا يكون منعزلا عاكفا على نفسه، يأخذ من الآداب المختلفة ما يلائم طبيعته، فلا يعيش منعزلًا، وإنما يعيش متصلًا بحياة الأمم البعيدة منها، ويعطيها فى نفس الوقت ما يستطيع.. إن كل أدب جدير بهذا الاسم يجب أن يأخذ ويعطى ويتأثر ويؤثر».