أصدر المرصد المصرى التابع للمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية تقريرا بعنوان "الجولة الرابعة".. بماذا تخبرنا "الزيارة التاريخية" للرئيس السيسى إلى بغداد؟، وذلك بالتزامن مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى العاصمة العراقية بغداد، اليوم، للمشاركة فى فعاليات القمة الثلاثية بين مصر والعراق والأردن، مع رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى، والملك عبد الله الثانى ملك الأردن، وذلك فى إطار الجولة الرابعة لآلية التعاون الثلاثى التى انطلقت بالقاهرة مارس 2019، وكان الرئيس العراقى برهم صالح فى استقباله بمطار بغداد الدولى.
وعقد الرئيس العراقى جلسة مباحثات مع السيسى والوفد المرافق له والمكون من الوزير عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة، ووزير الخارجية سامح شكرى، فى القصر الحكومى ببغداد.
وبعد انتهاء لقائه مع الرئيس العراقى، حظى السيسى باستقبال رسمى آخر من رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى حيث أقيمت مراسم الاستقبال الرسمى واستعراض حرس الشرف، تلى ذلك عقد جلسة مباحثات تمهيدية مع الكاظمى، فضلاً عن مناقشة عدد من الملفات ذات الاهتمام المشترك.
وفقا للتقرير فإن زيارة الشريس السيسى للعراق تمثل حدثا تاريخيا كونها الأولى لرئيس مصرى منذ 30 عاماً، فضلاً عن الوزن النسبى الكبير لمصر والعراق فى معادلة القوة العربية بمنطقة الشرق الأوسط، استناداً على الإرث الحضارى الضارب فى جذور التاريخ بواقع 5000 عام على أقل تقدير، وميراث التاريخ العسكرى تحديداً؛ فإن التحركات الجيوسياسية التى تُقرن فيها اسما الدولتين (مصر + العراق) على مدار تاريخهما المعاصر، كانت كفيلة بإثارة الانتباه والقلق لدى الفواعل الإقليمية، ولاسيما غير العربية والمتنافسة على تقويض أكبر قدر ممكن من هامش الحركة للقوى العربية الرئيسية فى المنطقة لصالحها، وذلك لما للعلاقة بين القاهرة وبغداد من خصوصية متفردة وحيازتها لمقومات التكامل التاريخى والثقافى والاقتصادى والسياسى والأمنى.
هذا من ناحية معادلة (مصر + العراق) فقط، حيث تفصل بين البلدين مسافة تقدر بـ 1427 كم، تضم 3 دول، ما عظم من قيمة وجود الأردن كعقدة ربط ومركز لوجيستى، يجعل من الثلاثى (مصر + العراق + الأردن) جسرا يدمج الجناح الشرقى للمنطقة العربية فى قلب القاهرة، والعكس صحيح.
وعليه، تبلورت أفكار الربط بين القاهرة وبغداد عبر الأردن – التى تُعرف الآن بالشام الجديد – مبكراً فى ثمانينات القرن، حين تم تأسيس مجلس التعاون العربى فى 16 فبراير 1989 بمبادرة من الرئيس العراقى الراحل صدام حسين، عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وضم المجلس وقتها ثلاث دول إلى جانب العراق، هى مصر واليمن الشمالى والأردن.
وقُدِمَ ليكون نموذجا لتحقيق التكامل العربى فى الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية، لكن آتى الغزو العراقى للكويت عام 1990 لينهى تماماً إمكانية الربط بين جبهة الشرق للمنطقة العربية “العراق”، مع محيطها ككل.
حتى عادت فكرة الربط مجدداً، من خلال تقرير للبنك الدولى نُشِر فى عام 2014، ويطرح إمكانية ربط دول الشام بمصر، ووضع مقترح البنك الدولى 7 دول مرجحة لتدشين هذا الربط "الإقليمي" المتكامل، وهم (مصر – العراق – الأردن – سوريا – فلسطين – لبنان – تركيا) بمساحة جغرافية تزيد عن مليونى كم.
لكن الاختلافات الجوهرية فى مجمل السياسات العامة لدول المصفوفة وخاصة تركيا التى تملك مشروعاً توسعياً أممياً يقوم على تفكيك وتحلل منظومة الأمن الإقليمى العربى من شمال العراق وسوريا لجنوب اليمن وصولاً لغرب ليبيا؛ حالت دون اقتراب طرح البنك الدولى من الواقعية اللازمة لتنفيذ المشروع.
لتتقلص مصفوفة السبع دول المقترحة، لتضم ثلاثة فقط، هى (مصر + العراق + الأردن)، بيد أن الشام الجديد كمشروع حل على أجندة حكومة حيدر العبادى 2014، لكن ثمة معوقات حالت دون بدء فعاليات تدشين التحالف الجديد، أبرزها استغراق العراق فى طاحون التخلص من تنظيم "داعش" فى مساحة رئيسية تبدأ من أطراف بغداد وصولاً للموصل، بما يعادل مساحة بريطانيا، تحولت إلى واحدة من كبريات معارك حروب العصابات فى المنطقة، إذ أرهقت العراق المنهك اقتصادياً، ودمرت بصورة شبة تامة البنى التحتية لمعالم مدن وبلداته التاريخية فى محافظة نينو.
حتى عاد الكاظمى، وأعلن "الشام الجديد"، لأول مرة خلال زيارته للولايات المتحدة أغسطس 2020، حيث أجرى حواراً مع صحيفة "واشنطن بوست" وذكر إنه يعتزم الدخول فى مشروع استراتيجى يحمل هذا الاسم، موضحا أنه مشروع تكامل اقتصادى على النسق الأوروبى، يجمع القاهرة ببغداد، وانضمت إليه عمان، لتكوين تكتل إقليمى قادر على مواجهة التحديات.
وفى نفس الشهر من ذات العام، عُقدت الجولة الثالثة، للثلاثى (مصر + العراق + الأردن) فى قمة عمان، على مستوى القادة.
وتمثل قمة بغداد الجارية الآن تطبيقاً لما جاء فى قمة عمان فى أغسطس 2020، وما جرى من لقاءات رسمية وهامشية على مستوى وزراء الخارجية والقادة خلال العامين الماضيين، إذ تستند ديناميكيات التحرك للثلاثى على إطلاق آلية التعاون والشراكة بينهم، فى مارس 2019، خلال اللقاء الذى جمع بين الرئيس السيسى، وعاهل الأردن الملك عبد الله، والرئيس العراقى برهام صالح فى القاهرة. حيث كانت آلية التعاون المعلن عنها فى القاهرة بمثابة الإعلان الفعلى لتدشين تحالف الشام الجديد.
وانطلاقاً لما لعلاقة القاهرة وبغداد من خصوصية متمايزة؛ تجدر الأهمية بضرورة تفنيد أبعاد إجراء لقاء القمة الحالية فى العراق، وحدود تأثير بغداد بالحضور المصرى تحديداً ضمن تحركاتها وموضعها فى منظومة الأمن الإقليمى العربى، وقبل التطرق لمعالجة هذه الإشكالية ينبغى أولاً الوقوف على النقاط الرئيسية التعريفية بمشروع الشام الجديد.
ووفقا لتقرير المرصد المصرى التابع للمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية فإن مشروع "الشام الجديد" يعتمد على الكتلة البشرية الضخمة لمصر وخبراتها الفنية ولاسيما فى مضمار التنمية الشاملة المستدامة، مقابل الثروة النفطية الضخمة التى يمتلكها العراق، وتنضم لهما الأردن بحكم موقعها الجغرافى الذى يربط العراق بمصر.
ويتم الربط بين الثلاثى بخطوط لنقل الغاز والنقل وتصدير الكهرباء، ما يشبه عصب مواصلات جديد يمر بين ثنايا المنطقة، ويحمل فى أوردته أمن الطاقة، على أن تكون البصرة مصدر خط أنبوب النفط لكل من مصر والأردن، اللذين سيحصلان على أسعار تفضيلية قياسا بالسوق العالمى للنفط، إذ تتراوح ما بين 14 و16 دولارا لبرميل النفط الواحد.
وتباعاً ستغذى مصر شبكة كهرباء العراق لتسد بغداد فجوة الـ 7 آلاف جيجا وات التى لا تستطيع توفيرها سواء بالشراء أو الإنتاج حالياً. فضلاً عن الدخول المرتقب لمصر فى مجال إعادة الأعمار وتشجيع الاستثمارات فى العواصم الثلاثة بما يحقق نسقاً من التكامل الاقتصادى على غرار الاتحاد الأوروبى.
فى هذه النقاط الرئيسية يمكن الإحاطة بأبعاد مشروع الشام الجديد، فما هى أبعاد إجراء لقاء القمة الحالية فى العراق، وحدود تأثير بغداد بالحضور المصرى تحديداً ضمن تحركاتها وموضعها فى منظومة الأمن الإقليمى العربي؟
وأشار التقرير إلى أنه يمكن تحديد أبعاد إجراء لقاء القمة الحالية فى بغداد، وحدود تأثرها بالحضور المصرى فى عدد من النقاط، أولها تخفيف حدة تداعيات الهندسة الطائفية للمشهد العراقي: حيث أنه منذ غزو العراق 2003، وتفصيل الولايات المتحدة لثوب جديد لشكل الدولة العراقية ومؤسساتها يقوم على مبادئ المحاصصة الطائفية وتعزيز الولاءات ما دون الوطنية، كان العراق بيئة جاذبة للاستقطاب الطائفى بناء على الذاكرة التاريخية له، بيد أن الاستقطاب الطائفى فى نموذجه العراقى كان الأعنف فى المنطقة نتيجة للتدخلات الإيرانية الجسيمة التى سعت منذ اليوم الأول لسقوط بغداد على إبقاء العراق فى طاحون حرب طائفية تعيق وصوله لأى من أطر الدولة الوطنية، ونجم عن ذلك تكوين كيانات عسكرية مشوهة أُدمِجت داخل هيكل القوات المسلحة، وتنتمى لأطر أيديولوجية وطائفية تقترب من القرار الاستراتيجى لطهران حد التوافق والشراكة بنمط “الراعى – الوكيل”، بيد أن خصوصية الحالة العراقية فى نموذج الاستقطاب والمحاصصة الطائفية، وقف أمام موجة وطنية خالصة أعلنت عن نفسها فى مظاهرات العراق فى أكتوبر 2019، حين تعالت أصوات قطاعات من الشعب العراقى هى أكثر انخراطا فى منظومة العولمة الثقافية، لتنبذ المحاصصة والمزاج الطائفى لمؤسسات الحكم، بعد تداعى الخدمات واستشراء الفساد واستمرار نزيف الشعب العراقى. تعتبر مصر من الدول القلائل التى تتعامل مع العراق حكومة وشعباً خارج إطار “التحيز الطائفي”، إذ تمتلك مصر مشروعاً وطنياً يقوم أساساً على مواجهة الهندسة الطائفية للمنطقة، بدعم الحكومات والجيوش الوطنية عوضاً عن الجماعات المسلحة ذات الارتباطات الولائية بالخارج.
كما لفت التقرير إلى أن تلك القمة ستنعكس أيضا على إعادة إعمار العراق، حيث تبلغ الخسائر المادية للعراق فى ثلاث محافظات فقط جراء الحرب مع تنظيم داعش وحده، حوالى 40 مليار دولار، ما يضع عمليات إعادة اعمار العراق أمام فرصة لبلورة نهج دولى – إقليمى لاتساع دائرة التدمير، وتجدر الإشارة لتدمير 98% من المدينة القديمة فى الموصل جراء المعارك مع تنظيم داعش بها 2017.
هذا إلى جانب تخفيف الارتباط الاستراتيجى مع إيران، حيث يناور رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى ضمن مشهد سياسى معقد داخل العراق، حيث دخل الكاظمى ثلاثة مواجهات حتى الآن مع الجماعات المسلحة، فالحادثة الأولى التى سميت “حادثة البوعثة” حصلت بعد نحو شهرين من تسلم الكاظمى سلطاته مع “كتائب حزب الله”، حينها لم تتمكن القوة التى أرسلها الكاظمى، بوصفه القائد العام للقوات المسلحة، من الاحتفاظ بمن تم اعتقالهم بتهمة إطلاق صواريخ على “المنطقة الخضراء”، واصطدم الكاظمى مع فصيل مسلح آخر هو “عصائب أهل الحق” عقب اعتقال أحد عناصرها، واتخذت هذه المواجهة، بالنسبة إلى الطرفين، صيغة خلاف حول شروط الاعتقال، إذ تمتلك العصائب تمثيل برلمانى، كما اصطدم الكاظمى مع الحشد الشعبى باعتقال قيادى فيه وهو مصلح قاسم أواخر مايو الماضى، بيد أن الصورة لن تكتمل حول الارتباط الاستراتيجى بين العراق وإيران من الزاوية الأمنية والعسكرية فقط، وإنما إذا ما تم النظر على مستوى التبادل التجارى بينهما الذى يراوح حاجز الـ 13 مليار دولار تمثل فيها صادرات النفط والغاز والكهرباء غالبية القيمة المالية، وفيما هٌيئت الظروف للربط الكهربائى بين مصر والعراق فإن ذلك من شأنه تخفيف الاعتماد العراقى تدريجياً على إيران، فضلاً عن دخول العراق لمنظومة الاقتصاد المعولم وخريطة الطاقة الجديدة من خلال البوابة المصرية، وهى خريطة لا تصطدم بالنظام العالمى الجديد بقدر ما تتماهى مع تكتيك الموازنة فى العلاقات بين اقطابه.
وأشار التقرير أيضا إلى دور القمة الثلاثية فى تحصين البوابة الشرقية للمنطقة العربية، لافتا إلى أنه بتدشين ما يشبه آلية استجابة مرنة، وغير تصادمية، تعمل على معالجة وتخفيف وقع تهديدات الأمن القومى العربى فى أضعف جبهاته الشرقية، من خلال تبادل الخبرات الأمنية والعسكرية، ووقف انتهاك سيادة العراق من قِبل التدخلات التركية والإيرانية التى قضمت إجراء من أراضى العراق لتأمين خطوط إمداداتها لأذرعها المليشياوية فى المنطقة.
بالإضافة إلى التضييق على المشروع التوسعى الإيرانى المهدد للاستقرار، وذلك من خلال استنساخ نموذج جديد من التحالف المصرى القبرصى اليونانى، الذى بات يعمل كمنصة لنقل الطاقة لأوروبا؛ فى المسرح البرى، من خلال تحالف ثلاثى يعمل على نقل النفط العراقى براً ليصل لأوروبا من خلال البوابة المصرية، ما يفقد أوراق إيران التهديدية فيما يرتبط بمضيق هرمز ولاسيما بعد تزايد حدة الاشتباك الإيرانى الإسرائيلى فى المضيق وبحاره المتصلة به “خليج عدن – بحر العرب”.
فضلا عن إحباط مخططات الاندماج الإسرائيلى فى المنطقة العربية، حيث تزايد الحديث مؤخراً فى إسرائيل عن ربط تل أبيب بالخليج على مستوى “أمن الطاقة” فى ضوء الاتفاقات الابراهيمية. حيث طرحت وزارة الخارجية الإسرائيلية فى العام 2019 فكرة إقامة تحالف عربي-إسرائيلى لربط الخليج العربى بالبحر المتوسط، مع ضم الأردن والعراق فى وقت لاحق، على أن تكون إسرائيل بوابة الشام الجديد نحو أوروبا والولايات المتحدة، إذ تسعى تل أبيب للتغول فى المنطقة من جناحها الشرقى لاعتبارات الصراع مع إيران من جهة، ومن جهة أخرى لحصد مكاسب العقد الماضى السهلة، التى شهدت تدميراً ممنهجاً لمقدرات القوة العربية. ويأتى التحالف المصرى العراقى الأردنى، ليضيف لميزان القوة العربية بما يقوض محاولات الثلاثى “تركيا – إيران – إسرائيل” لإعادة هندسة المشهد الأمنى وتباعاً الجيو -اقتصادى فى المنطقة برمتها.
وختاما فقد ذكر التقرير أن محاور التحرك المصرى تشمل اتجاهات ليبيا والسودان وشرق المتوسط وشرق المنطقة العربية “العراق”، لتصيغ الهندسة الأمنية الجديدة للإقليم بما يحقق حالات الاستقرار الممتد، ويبطئ من دوران طاحون التدمير والحرب فى المجال الحيوى للأمن القومى المصرى، بما يسمح للقاهرة تباعاً من اقتناص ظروف استراتيجية تضعها فى قلب الجناح الشرقى للمنطقة بعدما انكفت القاهرة على نفسها قرابة الثلاثين عاما.