قضت المحكمة الادارية العليا، بإنهاء الخصومة في الطعن المقام على الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى بالأسكندرية، بتأييد قرار وزارة الأوقاف المصرية برفض تصريح الخطابة لأحد المنتمين للتيارات الدينية المتشددة في أحد المساجد بمحافظة البحيرة، و سجلت المحكمة 9 نقاط أساسية لاَليات تجديد الخطاب الدينى.
قالت المحكمة برئاسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة، إن مصر قد استوت على قمة العالمين العربى والإسلامى، ليس فقط بكثافة سكانها وموقعها المتميز، وإنما بحضارة تليدة وموروث ثقافة جعلت منها فى ثورات العرب وحروبهم وبانتصاراتهم الدولة القائدة، وفى ميدان السلام والتعاون العربى بين دول العالم الدولة الرائدة.
وأشارت المحكمة أن المجتمع الدولى بأسره بات يمر بأزمة حقيقية مصيرية نتيجة دعاة الإرهاب والعنف والتشدد وقتلة الإنسانية الذين يستغلون الدين لتحقيق ماَربهم التى استشرت فى بعض الدول العربية والإفريقية والإسلامية وتتحمل مصر باعتبارها الرائدة فى العالم العربى والإسلامى محاربة هذا الإرهاب , بل لم تسلم دول أوروبا من أن ينالها شطر من هذا الإرهاب الأسود، ولا مرية فى أن أساس هذا الفكر الإرهابى أيا كانت مسمياته تنبثق من المفاهيم المغلوطة عن أصول الدين ووسطية الإسلام المستنير، وهم عن صحيح الدين الإسلامى معرضون، وقد ظنوا أنهم بإرهابهم غالبون، ألا بئس ما ظنوا وخاب ما كانوا يؤملون , إنهم لشرذمة قليلون , وباتت شعوب الدول من إرهابهم لحذرين , بعد أن عبدوا مفاهيم خاطئة فظلوا لها عاكفين , وعن مفاهيم صحيح الدين ضالين , وقد أضلوا بشباب برئ من كل واد فى الدنيا يهيمون , وما أضلهم إلا المجرمون , وهم الذين بإرهابهم يفسدون فى الأرض ولا يصلحون , ولن يرتدعوا عن غفلتهم حتى يذيقوا من عقاب القانون الدنيوى عن فعلهم الأثيم , فضلا عما ينتظرهم من العقاب الأخروى الأليم .
وحددت المحكمة 9 نقاط لتجديد أساليب الخطاب الدينى على النحو التالى:
أولا : يجب أن يعتمد تجديد الخطاب الدينى على فكرة أن الإسلام يدعو إلى السلام فى الأرض , فالإسلام دين خير وسلام وليس دين عنف أو عدوان , يقول الله تعالى : " وَتَعَأونُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَأونُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " الاَية 2 من سورة المائدة , وقوله تعالى : " وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ " الاَية 190 من سورة البقرة , كما أن الدعوة إلى الله تكون بمواجهة الفكر بالفكر , بالحكمة والموعظة الحسنة وليس باستخدام العنف , فقال الله تعالى : " ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" الاَية 125 من سورة النحل .
ثانيا : إن تجديد الخطاب الدينى يقتضى إعادة فهم النصوص على ضوء واقع الحياة وما تستحدثه البيئة المعاصرة من مستجدات بحيث تتناسب من روح التطور، وهى سنة الحياة فلا تظل قابعة فى البيئة التى صدرت بها منذ 1442 عاما مع عدم المساس بثوابت الدين نفسه من نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، فيجب أن يكون أسلوب التجديد فى الفروع فحسب ليكون مواكبا للأحداث الجارية ومتأثرا بها , محددا ما هو حق منها , وهذا ما فعله الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب حينما أوقف حد السرقة فى عام المجاعة، بل إن الأئمة الأربعة - خاصة الإمام الشافعى - انتهجوا ذات نهج تجديد الخطاب الدينى وفقاً للنوازل الجديدة ، فقد كانوا يفتون فى كل بلد حسب العرف السائد فى كل منها , فى إطار المبادئ العامة للشريعة الغراء وهو ما يعرف " بفقه الواقع " مما يدل على مرونة الشريعة الإسلامية ذاتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان .
ثالثا: يجب أن يكون على القمة فى عناصر تجديد الخطاب الدينى كذلك معالجة مفهوم " الوطن " فى ضوء تحديد حقيقة مفهوم " الفكر السياسى الإسلامى" وهما المعضلة الشائكة والمسألة المشكلة التى لا يُهتدى لوجهها، للمخاطر التى تواجه الأمة .
رابعا : أن تجديد الخطاب الدينى لا يجب أن يكون محصوراً داخل الأمة الإسلامية فحسب - ومصر قلب العالم الإسلامى - بل يتعين أن يتعدى حدود أقطارها إلى خارجها, فتجديد ذلك الخطاب يقتضى أن يشتمل على عدة لغات وهو ما يتفق مع رسالة الإسلام العالمية وليست المحلية , ذلك أن الأصل الصحيح للخطاب الدينى الإسلامى أن يكون عالميا موجها للناس كافة ، وليس للمسلمين فحسب، إعمالا لقوله سبحانه وتعالى عن رسوله الكريم حيث بعثه بالرسالة " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " الاَية 107 من سورة الأنبياء، ومن ثم فلا ينصرف التجديد إلى مكان معين أو لون أو جنس أو طائفة دون أخرى , بل يجب أن يجوب العالم خاصة العالم الغربى الذى كان مستعمرا ومستعبدا للبلاد العربية والإفريقية والإسلامية , فلا يستكين خطاب التجديد قابعا داخل أقطار الدول الإسلامية وحدها , وهو ما يقتضى إعداد جيل من الدعاة يتقن اللغات الأجنبية وصولا لنشر الصورة الصحيحة للإسلام فى أنحاء العالم .
والحق إنه وإن لم تتحد الدول الإسلامية والعربية خاصة الخليجية منها مع مصر فى العمل على تجديد الخطاب الدينى الصحيح والاصطفاف معها , فسوف ينالها لا محالة قدر من هذا التطرف والإرهاب فهو بلا وطن , وحتى ينكشف للأمة الإسلامية والعربية من يريد بها سوءا , ومن ينقلب على مصر فلن يضر الله بها شيئا .
ومبعث اهتمام مصر من خلال علماء الأوقاف والأزهر الشريف - وهى الرائدة فى العالم الإسلامى – الحفاظ على أصول الإسلام الوسطى المستنير مخاطبة البشر أجمعين , ومصر بذلك تؤرخ لدور عالمى وليس إقليميا لأنها تواجه بقوة وثبات وتضحية دعاة الإرهاب والتطرف لحماية الإنسانية جمعاء. وقيامها بذلك الدور إعمالا للمادة الأولى من الدستور المصرى الذى نص على أن الشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها ومصر جزء من العالم الإسلامى تنتمى إلى القارة الإفريقية وتعتز بامتدادها الاَسيوى وتسهم فى بناء الحضارة الإنسانية .
خامسا : يجب أن يعتمد تجديد الخطاب الدينى على الاعتدال ووسطية المنهج دون إفراط أو تفريط ,إعمالاً لقوله تعالى : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً " الاَية 143 من سورة البقرة , ومن الإعجاز العددى للقراَن أن تقع هذه الاَية وسط سورة البقرة البالغ اَياتها 286 للدلالة على توكيد منهج الوسطية فى الإسلام , كما يجب أن يكون تجديد الخطاب الدينى موافقا للقلوب وللعقول حتى إذا تلقته تلقفته بالارتياح والقبول , وأن يتسم بالتنوع لكافة فئات المجتمع فلا يقتصر على فئة دون أخرى , وأن يكون رائده التيسير على العباد لا التعسير عليهم , بحيث يميل إلى الابداع والخلق الجديد للمستجدات , وأن يبتعد عن الركود والجمود , كما يجب أن يتسم بروح التسامح التى يشعها الإسلام التى تقتضى الاحترام والإجلال والتحاور مع أصحاب الأديان السماوية , فرسالة الإسلام للعالمين تتمثل فى الرحمة التى تحمى ولا تهدد وتصون ولا تبدد .
سادسا : يجب أن يتناول خطاب التجديد الدينى طريق الوصول عبر تكنولوجيا العصر، وأن يقيم وزنا فى أدواته لشبكة المعلومات الدولية " الإنترنت" التى أضحت لغة العصر , لتوجيه المجتمعات البشرية إلى الحق والعدل والسلام , وبدون لغة العصر المشار إليها سيضيع جهد المخلصين والمجتهدين , إذ تواجه تربية النشء صعوبات جمة فى عصر العولمة , وتضاءلت دور الأسرة فى إصلاح الأبناء , نتيجة التأثير السحرى لوسائل الاتصال المتطورة والكون الفضائى المفتوح .
سابعا : يقتضى تجديد الخطاب الدينى مواجهة الفكر بالفكر , خاصة الشباب , ذلك أن الواقع كشف عن أن هناك ثمة تقصير فى مناقشتهم واحتوائهم, ولا مرية فى أن قادة الفكر الدينى الوسطى، يدركون أنه يجب أن تكون أساليب التجديد للخطاب الدينى مرتبطة ارتباطا وثيقا بتطور الحياة ومنبثقة عن تعاليم الإسلام السمح ، ذلك أن التاريخ أثبت أن المذاهب الإسلامية المتشددة لم تستطع أن تخترق مصر على مر تاريخها , بسبب تشرب علمائها الأجلاء من منهج الاعتدال , وقد باتوا الاَن ملزمين بمواجهة دعاة التكفير , وفى مضمار تعليم النشء روح التسامح والاعتدال يجب النظر فى المناهج الأزهرية التى تعاقب عليها عدة أنظمة متباينة بحيث تثير آفاق الطلاب نحو قبول الفكر الجديد والاختلاف , الأمر الذى يحتاج إلى تعديل المنهجية الفكرية باعتماد برامج ومعايير جديدة تواكب روح العصر وتؤدى إلى احياء التعليم الأزهرى الأصيل الذى يعمل على إعداد دعاة يفيدون المجتمع فتتلقفهم وزارة الأوقاف وتكمل المسيرة بإعداد الدعاة وفقا للخطط التى تنتهجها فى أساليب التجديد , فلا يجب ونحن فى القرن الحادى والعشرين استغلال جهل البسطاء لدى دعاة الفكر المتطرف فى أن تكون الجنة والنار من المسائل التى تدخل فى تقدير العباد , لأنها علاقة خاصة بين العبد وربه لا يطلع عليها سوى علام الغيوب , فالجنة والنار ليست من صكوك الغفران المعقودة بيد البشر بل هى من أخص العلائق بين العبد وربه .
ثامنا : تجديد الخطاب الدينى يجب أن يعتمد على أن الدين ليس للعبادة فحسب وإنما الدين يرتبط بالمعاملة ويتصل بالحياة الدنيا كارتباطه بالاَخرة , إعمالا لقوله تعالى : " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " الاَية 77 من سورة القصص , فالدين المعاملة من مكارم الأخلاق والأمانة والصدق , ويجب أن يتناول تجديد الخطاب الدينى كافة مظاهر الحياة , فى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والحضارية , وهذا هو الفهم الصائب المتصل بطبيعة الدين الإسلامى وقدرته الروحية العجيبة على الخلود والخلق والابداع والابتكار والتعايش , فقد عانت الأمة الإسلامية من التخلف الحضارى بسبب الاستقطاب المذهبى المتنافر.
تاسعا : التأكيد على أن حقيقة تجديد الخطاب الدينى ليس تجديداً للدين ذاته ,حاشا لله , فلن تجد لسنة الله تبديلا إعمالا لقول الحق : " سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا " الاَية 23 سورة الفتح , وإنما التجديد فى الفكر نفسه , لأن الفكر يرتبط بمستجدات الحياة , والحياة بطبيعتها تتطور بتتطور الأزمة والأمكنة , فكان طبيعيا أن يتطور الفكر حتى يتلاءم مع الحياة , فضلا عن أن التجديد يكون قاصرا على الفروع فقط دون ثوابت الشرع الإسلامى المقررة بأدلته قطعية الثبوت وقطعية الدلالة والتى تشمل الأصول والمبادئ أو الاعتقاد .