تعرضت دراسة حديثة صادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية لسيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، حيث أشارت إلى أن الحركة استطاعت تحقيق الاستفادة القصوى من خطة الانسحاب العسكري الأمريكي والدولي من أفغانستان، من خلال اتباعها استراتيجية توسعية باتت واضحة المعالم منذ بداية هجماتها وفرض سيطرتها على أقاليم متعددة في البلاد. وقد حققت هدفها بالوصول إلى العاصمة كابول في 15 أغسطس الجاري
وأشارت الدراسة الى أنه قبل اكتمال تنفيذ خطة الانسحاب الأمريكي، سيطرت الحركة على ما يتجاوز 85% من مساحة أفغانستان، ومن ثم على أهم ولاياتها ومعابرها الحدودية، ومنشآتها الحيوية، مما دعا الحكومة الأفغانية إلى عرض تقاسم السلطة على الحركة، التي باتت تمتلك من أوراق الضغط ما يُكفِّل لها الحصول على مزيد من المكاسب، وبشكل يفوق مجرد عرض تقاسم السلطة مع الحكومة الحالية. فيما لا يظهر أى انعكاس إيجابي للمفاوضات المتواصلة بين الحركة والحكومة برعاية دولية تارة وإقليمية تارة أخرى، على أرض الواقع في البلاد التي باتت تعاني أوضاعاً إنسانية متردية.
ذكرت الدراسة أن حركة طالبان واصلت توسعها في أفغانستان بشكل متسارع، مع سيطرتها -حتى الآن- على 21 ولاية من أصل 34، منها 7 ولايات سيطرت عليها خلال ساعات دون مقاومة تذكر، شملت أهم الولايات في البلاد مثل هرات، وقندهار، وهلمند، وبادغيس، وغور، وأروزغان، ولوغار. وبسيطرتها على لوغار، اقتربت الحركة كثيراً من العاصمة كابول التي بدأت اجتياحها في 15 أغسطس الجاري.
واشارت الدراسة إلى أن هذا التقدم السريع السلطات الأفغانية دفع إلى إقالة رئيس أركان الجيش الجنرال ولى محمد أحمد زاي من منصبه، في 11 أغسطس الحالي، وتعيين قائد القوات الخاصة هيبة الله عليزاي بدلاً منه، وتعيين سامي سادات قائداً للقوات الخاصة، حسب ما أوضحه مساعد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأفغانية فؤاد أمان. فيما تجدر الإشارة إلى أن سادات قد تصاعد دوره في القتال ضد طالبان في العديد من الولايات الأفغانية، وأن تقارير عديدة تشير إلى استعداده لمعركة كابول المحتملة.
وبحسب الدراسة فان السرعة التي تدير بها الحركة استراتيجية الهجوم الخاصة بها تثير تساؤلات حول الفترة التي ستتمكن فيها الحكومة الأفغانية من المحافظة على ما تبقى من المدن التي لا زالت تحت سيطرتها. فيما تشير آراء بعض الخبراء إلى أن اجتياح العاصمة، التي باتت تستضيف النازحين من الولايات المسيطر عليها من قبل طالبان، في المخيمات والحدائق العامة، سوف يتسبب في تفجر أزمة إنسانية، على نحو دفع وكالات الإغاثة الدولية إلى التحذير من حدوث كارثة إنسانية في أفغانستان. كما حثت الأمم المتحدة الدول المجاورة لأفغانستان على إبقاء حدودها مفتوحة، بعد أن أشار برنامج الغذاء العالمي إلى أن ما يقدر بـ14 مليون شخص يعانون من الجوع.
وذكرت الدراسة أن طالبان تسعى إلى السيطرة ليس فقط على المدن الكبرى، ولكن أيضاً على المعابر الحدودية، والمنشآت الحيوية فيها. فعلي سبيل المثال، استولت الحركة على سجن قندهار، وأطلقت سراح المئات من السجناء التابعين لها، وقامت بنقل باقي السجناء لمكان آخر، فيما ضم السجن، وقت الاستيلاء عليه، أكثر من 1000 سجين، وذلك حسب صفى الله جلالزاي، المتحدث باسم السجون الأفغانية. كما استولت على مطارى قندوز شمال البلاد، وشبرغان بولاية جوزجان. فيما لا يزال مطار قندهار حتى وقت كتابة المقال تحت سيطرة القوات الأفغانية، كما يخضع مطار كابول لحماية القوات الأفغانية بدعم تركي.
وتجدر الإشارة إلى أن المواجهات بين القوات الأفغانية والحركة قد أسفرت عن مقتل أكثر من 6 آلاف شخص منذ منتصف أبريل 2021، منهم 4000 من قوات الأمن، وأكثر من 2000 من المدنيين، طبقاً لتصريحات وزير الخارجية محمد حنيف أتمار.
آليات رئيسية
ووفقا للدراسة فان حركة طالبان اتبعت استراتيجية جديدة على المستويين السياسي والعسكري، تقوم على تحقيق أكبر قدر من السيطرة على الأرض بهدف تعزيز الموقع التفاوضي أمام القوى والأطراف الأخرى، وذلك من خلال اتباع الآليات التالية:
1- الحفاظ على مسارات التفاوض: فعلى الرغم من توسع رقعة المعارك بين طالبان والقوات الأفغانية، بسبب إصرار الحركة على توسيع نطاق سيطرتها على مراكز الولايات والوصول إلى العاصمة، بات لافتاً أنها تنخرط في محادثات عدة استضافتها العديد من الدول، منذ دخولها في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي سيطر فيه مقاتلو الحركة على مدينة بول خمري عاصمة ولاية بغلان شمال البلاد، كان وفد الحركة يتفاوض في الدوحة مجدداً، في مباحثات دولية موسعة حول مستقبل أفغانستان، في 10 أغسطس الحالي، وهو ما سبق وأن تكرر في المباحثات التي استضافتها إيران في 7 يوليو الفائت، حيث سيطرت الحركة علي المعبرين الحدوديين مع إيران في أعقاب انتهاء المباحثات مباشرة، علي الرغم من توقيع الطرفين على بيان المباحثات الختامي الذي أكد على "ضرورة اتجاه جهود الطرفين نحو الحل السياسي والسلمي". ويشير ذلك إلى أن اعتماد الحركة نهج المفاوضات لا يعني توقفها عن محاولات فرض السيطرة على الأرض، والحصول على أوراق ضغط في مواجهة الأطراف كافة، ممثلين في الحكومة الأفغانية، والولايات المتحدة الأمريكية، والقوى الكبرى، ودول الجوار الإقليمي.
2- السيطرة على المعابر: تركز حركة طالبان جهودها القتالية بشكل ملحوظ للسيطرة على المعابر والولايات الحدودية، حيث تمتلك أفغانستان 10 معابر حدودية مع كل من باكستان وإيران وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان. وقد استطاعت الحركة أن تستولي على 7 منها منذ يونيو الماضي وحتى الآن، إذ سيطرت على معبرى شيرهان وآي خانوم الحدوديين مع طاجيكستان، ومعبرى إسلام قلعة وأبو نصر فراهي مع إيران، ومعبر تورغوندي مع تركمانستان، ومعبرى سين بولداك وداندي باتان مع باكستان.
وقد تسبب إستيلاء طالبان على ثلثى معابر البلاد في تراجع إيرادات الجمارك في أفغانستان بنسبة 40% حسب تقارير وزارة المالية الأفغانية، التي أوضحت أن إيرادات الحكومة بلغت خلال الشهر الثالث من العام المالي الحالي 91.25 مليون دولار، في حين تراجعت الإيرادات إلى 57.5 مليون دولار خلال الفترة من 22 يونيو الماضي إلى 22 يوليو الفائت.
وبذلك تكون الحكومة الأفغانية قد خسرت إيرادات تفوق 33 مليون دولار خلال شهر واحد.فيما يذكر أن الجمارك كانت تغطي 30% من إيرادات الدولة، وأن باقي الـ70% من موازنة الدولة كانت تأتي من أموال المساعدات الدولية المقدمة للحكومة الأفغانية، وبالتالي فإن استيلاء طالبان على المعابر الحدودية يعني حصولها على إيرادات هذه المعابر. إذ لم يعلن عن إغلاق المعابر التي سيطرت عليها الحركة – باستثناء دعوة إيران التجار إلي وقف تجارتهم عبر معبرى إسلام قلعة وأبو نصر فراهي- مما يعني استمرار التجارة فيها، وبالتالي حصول طالبان على رسوم العبور والجمارك، كما أن سيطرة طالبان على المعابر تمكنها من فرض حصار نوعي على السلاح والمواد الغذائية الواردة للحكومة مما يعني مزيداً من التضييق عليها.
3- طمأنة دول الجوار: تسعى الحركة إلى توجيه رسائل طمأنة إلى دول الجوار، من أجل دفعها إلى إجراء تغيير في موقفها باتجاه التعاملمعها كطرف لا يمكن تجاهله. فعلى الرغم من أن دول الجوار الأفغاني في مجملها هى دول معادية للحركة- باستثناء باكستان الحليف القديم لها- فإن طالبان قد استطاعت مخاطبة دور الجوار وطمأنتها في أكثر من سياق، إذ يبدو أنها قد استوعبت قواعد اللعبة السياسية والدولية، مستفيدة من خبرتها السابقة، حيث دأبت على تنظيم زيارات لروسيا وإيران، ومخاطبة الصين ودعوتها للاستثمار في أفغانستان، والتأكيد لطاجيكستان على أنها لا تريد زعزعة استقرارها.
غير أن استيلاء الحركة على المعابر الحدودية مع أغلب هذه الدول، والسيطرة على الولايات المتاخمة لها، يدفع دول الجوار دفعاً نحو التعامل وربما التنسيق معها، حفاظاً على أمن حدودها من التهديد المحقق إذا ما أرادت طالبان.
ولا يستبعد سيناريو التعاون، أو بالأحرى التعامل الاضطراري، لدول الجوار مع حركة طالبان، ليس فقط في ظل عدم إعلان أى من دول الجوار عن إغلاق معابرها مع أفغانستان، وبصفة خاصة تلك التي سيطرت عليها الحركة، مما يعد مؤشراً على استعداد مبدئي للتعامل مع الحركة في تسيير حركة المعابر، وإنما أيضاً في ظل اعتبار أهم وهو الاعتراف الأمريكي بالحركة وتحولها إلى شريك سياسي في البلاد من خلال اتفاق السلام الذي أبرم بين الطرفين، في فبراير 2020.
ويلاحظ في هذا السياق أنه على الرغم من قلق دول الجوار الأفغاني من صعود طالبان مرة أخرى، فإن هذه الدول لم تصدر عنها مواقف يمكن وصفها بالحادة أو التصعيدية تجاه طالبان، فبرغم الخلاف المذهبي مع إيران، والأيديولوجي مع الصين،والعداء الروسي والطاجيكي للحركات الجهادية الإسلامية، يلاحظ أن الخطاب الذي يتناول سياسة الحركة في البلاد من قبل هذه الدول يعتمد على مصطلحات حيادية، تدعو الحركة لوقف العنف، والالتزام بمسارات التفاوض مع الحكومة. فيما لا يتضمن الخطاب الطاجيكي - على سبيل المثال- إشارات لكون طالبان مصنفة من قبل السلطات الطاجيكية كمنظمة إرهابية، إذ تتحسب طاجيكستان للدخول في حرب أهلية مجدداً مع الجماعات الإسلامية التي حتماً ستجد طالبان سبلها للتواصل معها في الداخل الطاجيكي.
4- عزل الولايات للسيطرة عليها: وفق الخبرة التي عايشتها حركة طالبان خلال سنوات حكمها، وخلال حربها مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى انتزاع السلطة منها، أدركت الحركة ضرورة السيطرة أولاً على المناطق الريفية الممتدة في أرجاء البلاد، والتي لا تتسم بالقدرة على المواجهة والمقاومة، لتحرز تقدماً في هذا الإطار يمكنها الانطلاق منه إلي المدن، والمراكز الحضرية، لاسيما في ظل تراجع أعداد القوات الأمريكية، نتيجة بدء تنفيذ خطة الانسحاب الكلي من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر القادم 2021، الأمر الذي تسبب في إضعاف القوات الأفغانية التي اضطرت بدورها إلى التراجع باتجاه المراكز الحضارية لحمايتها، تاركة خلفها الريف بطرقه السريعة ومحاوره مع باقي مدن المركز، حيث استطاعت الحركة تركيز تواجدها فيها من خلال عشرات نقاط التفتيش على الطريق الواحد.
وتهدف نقاط التفيش إلى تمشيط دائم للمناطق التي تمت السيطرة عليها بالفعل من ناحية، وعزل المناطق الأخرى التي لم تحصل عليها الحركة بعد من ناحية أخرى، لاسيما علي الطرق المهمة مثل الطريق الرابط بين شمال وجنوب البلاد. فإلى جانب كون هذه النقاط التفتيشية استعراضاً لقوة الحركة وسيطرتها على أغلب ولايات البلاد، فإنها تعمل على تقييد حركة السلطات الأفغانية، وعرقلة إمداداتها عبر الطرق الواصلة بين الولايات المختلفة، مما يؤثر على قدرة الحكومة علي إدارة شئونها، وبالتالي ضعف الثقة فيها، وفي الوقت المناسب تطرح الحركة نفسها كبديل للحكومة في تسيير احتياجات هذه الولايات.
يمكن القول في النهاية إن التطورات الميدانية الأخيرة في أفغانستان أتاحت لحركة طالبان مساحات واسعة للتحرك في ظل ما حققته من نجاحات تمثلت في السيطرة على مفاصل البلاد الحيوية، فيما لم يتبقى سوى استكمال السيطرة على العاصمة كابول التي بدأت في اجتياحها، لتعيد الحركة نفسها إلى السلطة مجدداً عقب عشرين عاماً من فقدانها.
وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن مسار الحركة الأرجح هو استكمال السيطرة على العاصمة، وباقي المراكز الحيوية في البلاد، مما يؤدي إلى انهيار الحكومة الأفغانية، ومن ثم دفعها لتقديم تنازلات تمكن طالبان من العودة إلى السلطة سلمياً، نظراً لاختبار الحركة سابقاً لتجربة الانعزال الدولي إذا ما اتجهت إلى الاستيلاء على كابول عسكرياً، بما يعنيه ذلك من فقدان الشرعية التي فرضتها مفاوضات السلام مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذت قراراً بإنهاء حقبة أفغانستان من تاريخها العسكري، وهو قرار لا يمكن الرئيس الأمريكي جو بايدين دفع تكلفة التراجع عنه، في الوقت الذي تنهار فيه قدرات القوات الأفغانية، وباقي هيئات ومؤسسات الدولة أمام هجمات طالبان.