عصر الاتصالات والتواصل يقدم الكثير من الإمكانات والوعود، لكنه أيضا يحمل الكثير من الإرباك والتداخل، الذى يجعل القدرة على الفرز والتمييز أصعب، ويمتد هذا الأمر فى كل القضايا، بدءا من التعليم والسكان وصولا إلى فيروس كورونا، وفى الوسط كل الموضوعات القابلة للنقاش، وكثيرا ما يذكر البعض على سبيل السخرية، أن الكثير من القضايا السياسية أو الاجتماعية فى الماضى ما كانت تتم بنفس الطريقة لو كان ذلك فى وجود السوشيال ميديا، ونعيد التذكير بأن أكثر من نصف المصريين لديهم حسابات على فيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعى، يتواصلون فى العالم مع 4.14 مليار مستخدم نشط، يشكلون أكثر من نصف سكان العالم، وهذا العدد يعنى أن كل أو أغلب هؤلاء يشعرون بأنهم على قدم المساواة فى التعبير عن آرائهم فى أكثر القضايا تعقيدا.
ولا يتوقف تأثير السوشيال ميديا ومواقع الإنترنت على الأفراد، لكنه يؤثر على الجماعات والمؤسسات، بل وربما يمتد فى كل الحقول، ويسهم فى توجيه الرأى العام نحو اختيارات قد لا تكون هى الأفضل والأكثر فائدة.
وقد أصبحت أدوات التواصل الاجتماعى شاهدة على تحولات السلطة فى العالم، فى الولايات المتحدة وأوروبا مثل أى دولة فى العالم الثالث، لأن هذا العالم الافتراضى يسهم فى بناء أمزجة الناس ويتحكم فى سلوكياتهم، ويدفعهم لاتخاذ رأى لشراء سلعة أو قبول ورفض سلعة أو اتخاذ موقف مؤيد أو معارض، وهو أمر يفترض أن تنتبه إليه السلطة التقليدية فى وقت أصبحت فيه الأولويات السياسية والاجتماعية أكثر تعقيدا، وينجح بعض من يستخدمون أدوات التواصل فى ترويج أفكارهم بشكل أكبر ممن يستندون إلى الطرق التقليدية، وهى خطوات تحدث للمرة الأولى منذ ظهور الإذاعة كأول طريق للإعلام يؤثر فيمن لا يمكنهم القراءة والكتابة.
وخلال الانتخابات الأمريكية الأخيرة فقد الإعلام الأمريكى نقاطا فيما يتعلق بالتأثير، حيث تفوقت أدوات التواصل على الإعلام الأمريكى بكل إمكاناته، ورأينا كيف اعتمد الرئيس السابق دونالد ترامب على أدوات التواصل، سواء أثناء وجوده فى البيت الأبيض أو فى حملته الانتخابية، ووصل الأمر إلى أن جرت عملية مصادرة لحسابات ترامب على هذه المواقع، ضمن حرب دعاية استمرت طوال الحملة الانتخابية.
أصبحت مواقع فيس بوك ويوتيوب وتويتر وإنستجرام وغيرها، منصات للنشر والتفاعل ومجالا للدعاية، بسبب سهولة الوصول إليها، وغياب معايير النشر والتدقيق فى المحتويات المزيفة والمفبركة، وتتضمن الصحيح مع المزيف، ومن الصعب على كثير من المستخدمين التفرقة، ما يجعلهم عاجزين عن التمييز، وبالتالى يتخذون قرارات بالشراء أو العمل قد لا تكون هى الأفضل.
وكل هذا يضاعف من اعتماد الناس، أفرادا وشركات ومؤسسات، على شبكات التواصل الاجتماعى، ويصبح المجتمع الافتراضى هو الأساسى الذى يحكم اختيارات البشر، وكل هذا يتم اختياريا، ومن دون أى نوع من الإجبار، لأن الأخبار والدعاية تسهم فى توجيه الرأى العام وتنجح فى تسويق سلع وأشخاص وسياسات، وهو دور ظل مقصورا على أدوات الإعلام التقليدى لعقود، وأصبحت الأدوات الحديثة جزءا من أى معادلة، بعيوبها وميزاتها.
ومن هذه العيوب أن المناكفات السريعة تسود، وتختفى فرص النقاش الجاد بين جمهور أغلبه متعطش لإعلان الرأى فى عالم يفرض علينا أخباره وموضوعاته، حيث تفقد الموضوعات المهمة قيمتها وتأثيرها فى مواجهة الأكثر خفة وتفاهة، مع تفضيل «الملخصات» عن الإسهاب والتوسع، على طريقة الثانوية العامة، وعلى سبيل المثال، فإن التعليم والثانوية العامة ومكاتب التنسيق يفترض أنها موضوع مهم، لكنه لا يأخذ مجالا لمناقشة بقدر ما يتم الأمر بإصدار أحكام ومحاكمات للعملية التعليمية، لا يوجد نقاش جاد حول اختيارات الطلاب ومستقبلهم فى الجامعة وأى التخصصات أفضل فى التوظيف.
ومن يتابع التريندات يكتشف أن مستقبل أجيال من طلاب الثانوية، لا يشغل مساحة تتوازى مع انشغالات عالم التريند بموضوعات مصطنعة، ومشاجرات كروية وحروب الألتراس بين النوادى وتوظيف العواطف، وحتى من ينتقدون الجرى وراء التريند لا ينشغلون بالجاد والمهم.