أبرق عبدالله النديم من منفاه فى «الآستانة» بتركيا إلى أخيه وأمه يدعوهما إلى الحضور: «لم تكن هناك زوجة ولا أب ولا أم ولا أولاد، تلك الحاشية التى عاش نديم بدونها، ولم يعد يريد الآن أكثر من أن يلقى على من تبقى منهم نظرة».. هكذا يكشف «أبوالمعاطى أبو النجا» دراما الأيام الأخيرة فى حياة النديم.. مضيفا فى روايته «العودة إلى المنفى»: «أبرق نديم إلى أخيه وأمه، وبقى فى انتظارهما وأخذت ساعات الليل والنهار تمضى بخطى أبطأ، وتزايد زواره يتقدمهم رجل عجوز مرهق اسمه الشيخ جمال الدين، وفى كل مرة يفتح نديم عينيه متفحصًا وجوه الزائرين باحثًا بينها عن وجه أو وجهين ينتظرهما بصبر نافذ، ولا يسمح لخيبة الأمل أن تظهر على وجهه، كان ذلك سباقًا آخر بين الحب والموت».
هكذا عاش أيامه الأخيرة لا يطلب شيئًا إلا أن يرى أمه وأخيه، بعد أن كان وحده أثناء الثورة العرابية صاحب «الدور الذى تقوم به الآن الصحافة والإذاعة والسينما جميعا»، حسب تقدير أحمد بهاء الدين فى كتابه «أيام لها تاريخ»، مضيفا: «لا يمر عليه يوم إلا ويلقى فيه ثلاث خطب أو أربعا، فى الشوارع والسرادقات، فى المدن والبنادر والقرى، ناجحا جدا مع العمال والفلاحين والبسطاء، يفتح لهم قلبه، ويهز أكتافهم ويعلمهم الكلمات، مستعينا بكل تجارب حياته بينهم، وذاكرته الحساسة التى تلتقط طباعهم وتدرك أمزجتهم، مستخدما كل أدوات التمثيل والتهريج والإلقاء، ثم هو لا يكتفى بنفسه، فيجمع تلاميذه يعلمهم الخطابة ويجعل منهم فرقة دعاية لا نظير لها، تطوف معه الأقاليم، لتساعده فى نشر الدعوة»، ويتساءل بهاء الدين: «أليست هذه أول حملة دعاية عرفتها مصر؟».
اختفى بعد هزيمة الثورة العرابية هو وخادمه ولم يظهر له أثر نحو تسعة أعوام، وتم القبض عليه فى بلدة «الجميزة» مركز «السنطة» محافظة الغربية بوشاية، وعفا عنه الخديو توفيق، بشرط أن يترك مصر إلى أى بلد يشاء، فاختار «يافا الفلسطينية»، ثم عاد بعفو من الخديو عباس حلمى الثانى سنة 1892، وجدد نشاطه فى مقاومة الاحتلال الإنجليزى وأصدر مجلة «الأستاذ»، وكان نصيبه النفى مرة ثانية إلى يافا.. يذكر أبوالنجا: «شرطوا عليه ألا يتكلم فى السياسة وألا يهاجم الإنجليز، لكنه تكلم فى كل شىء وهاجم السلطان العثمانى نفسه، وقرر السلطان إبعاده عن كل الأراضى التابعة له، وبتدخل من «الغازى مختار باشا» المندوب السلطانى بالإسكندرية كانت «الآستانة» هى محطته النهائية، وعمل فيها مراقبًا للمطبوعات بمرتب 45 جنيهًا شهريًا».
يضيف «أبوالنجا»: «التقى فى الآستانة برجل آخر من رجال التاريخ العظام عرفه منذ سنين، وتآمر معه على أن يغير وجه الحياة الذى لم يكن يروق لهما فى ذلك الوقت»، وكان هذا الرجل هو جمال الدين الأفغانى المنفى هو الآخر».. وكانت معركته إلى جانب أستاذه ضد رجل فى حاشية السلطان عبدالحميد اسمه «أبوالهدى الصيادى».. كان أبوالهدى فى إحساس نديم تركيزًا نقيًا لكل رذائل الشرق سلوكًا وفكرًا، وألف ضده واحدًا من أعجب كتبه سماه «المسامير»، وحين بلغ أبا الهدى أمر الكتاب أصابه ذهول، لكنه وجدها فرصة ليبعث مخاوف السلطان، وشكوكه وليوهمه أن هذه الخطوة ليست سوى البداية فى مؤامرة يديرها الإنجليز لنقل الخلافة إلى مصر».
زار الخديو عباس الآستانة لأول مرة عام 1894، والتقى «الأفغانى» و«نديم»، ولم يكن اللقاء ضمن البرنامج، ووجد «أبوالهدى» فى هذا اللقاء العابر بذرة صالحة لإيقاظ شكوك السلطان فيهما، كان المرض قد بدأ يتسلل إلى جسد «نديم»، فتواضعت أحلامه لتصبح حلمًا واحدًا صغيرًا وهو العودة لمصر، وتجدد حلمه حين علم أن الخديو عباس فى طريقه إلى الآستانة فى زيارة جديدة، وركب مع الخديو على ظهر السفينة، لكن فى آخر لحظة تم وقفها بأمر من السلطان وإنزال «نديم» منها بوشاية من «أبوالهدى».
يذكر «أبوالنجا: «كان المرض ضيفًا حل فى صدره، ولأن عودته إلى مصر أصبحت أملًا بعيد المنال طلب من حكومة السلطان أن تأتى أمه وأخيه لرؤيتهما، لكنهما حين وصلا كان قد رحل كعادته ودون أن يقول لهما إلى أين، وكان ثمة رجل عجوز مهدم اسمه الشيخ جمال الدين ألقى عليه نظرة واجمة حزينة.. قادهما الرجل العجوز إلى مقبرة «يحيى أفندى فى باشكطاس»، حيث يرقد واحد من أبناء مصر، من أعظم أبنائها.. يضيف «أبوالنجا»: «كانت العجوز التى وقفت ترقب مقبرته فى صمت ودون أن تطرف أو تبكى، لا تعرف عنه سوى أنه ولدها الذى كانت دائمًا تفتقده».. توجه شقيقه بسؤال إلى «الأفغانى»: يا سيدى متى حدث ذلك؟.. تأمله الشيخ العجوز فى ذهول ثم قال بعد لحظة تذكر: أظنه كان مساء الأحد العاشر من أكتوبر، مثل هذا اليوم، عام 1896، ثم تمتم بصوت مختنق: يرحمه الله، يرحمنى الله»..كان «النديم» عمره 54 عاما فقط.