بعد معاناة من وطأة المرض استمرت 15 عاما، وبعد ساعات من تلقيه نبأ منح الأمم المتحدة له جائزة «الحقوق الإنسانية» ضمن 6 شخصيات عالمية، توفى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين صباح 28 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1973، عن 84 عاما.
تتذكر زوجته «سوزان» لحظاته الأخيرة، تروى فى مذكراتها «معك»، ترجمة بدر الدين عردوكى، مراجعة محمود أمين العالم: «نحو الساعة السادسة صباحا جعلته يشرب قليلا من الحليب، وتمتم: «بس.. ونزلت أعد قهوتنا، ثم صعدت ثانية مع صينيتى ودنوت من سريره، وناولته ملعقة من العسل بلعها، وبدا لى بالغ الشحوب عندما استدرت إليه بعد أن وضعت الملعقة على الطاولة، وهيأت البسكويت، لا تنفس، ولا نبض، ففعلت ما كنت أفعله فى لحظات غشيانه العديدة، لكنى كنت أدرك أن ذلك بلا فائدة، فناديت الدكتور غالى، ووصل بعد نصف ساعة، وجلست قربه مرهقة متبلدة الذهن، وإن كنت هادئة هدوءا غريبا، ما أكثر ما كنت أتخيل هذه اللحظة المرعبة! كنا معا وحيدين متقاربين بشكل يفوق الوصف، ولم أكن أبكى، فقد جاءت الدموع بعد ذلك».
فى اليوم التالى، 29 أكتوبر 1973، كتبت جريدة «الأهرام» خبر الوفاة فى الصفحة الأولى، وإلى جواره مقال قصير للكاتب توفيق الحكيم، ومقال رئيسى للصفحة الخامسة كتبه الدكتور لويس عوض، أحد تلاميذه، قال «الحكيم»: «فجيعة كبيرة.. فجيعة الأدب العربى فى عميده العظيم، وفجيعتى أكبر فى أخ قديم كريم، وإذا كان اللسان العربى منذ نطق أدبا سوف ينطق إلى آخر الدهر باسم طه حسين، وفضله على لغة العرب، فإن لسان القلب لن يكف عن ترديد ذكراه ما بقيت على قيد الحياة، فقد جمعتنا أجمل أيام العمر، كما جمعنا الفكر على صفحات كتاب، إنك أيها الصديق العزيز إذ تعبر اليوم الدار الفانية إلى الدار الباقية، إنما تعبرها بنفس مطمئنة راضية بعد أن عبرت بلادك الهزيمة، إن روحك العظيمة لم تشأ أن تفارق جسدك إلا بعد أن فارق اليأس روح مصر».
وقال لويس عوض، فى مقاله «لن أقول وداعا»: «مات أمس طه حسين فى الرابعة والثمانين، وبموته انطوى كتاب من تاريخ مصر الحديث، كتاب ضخم عظيم قراؤه الملايين عبر أربعة أجيال: فى العشرينيات وفى الثلاثينيات، وفى الأربعينيات، وفى الخمسينيات، ولست أقصد بهذا المنادين لما كتبه الأديب، لأن أدب طه حسين سيقرأ ويقرأ ما بقى الأدب العربى، ولكنى أقصد صفحات حياته التى أضاءت حياة مصر والعالم العربى علما وفكرا وثقافة وقيما وجلائل أعمال قرابة نصف قرن، وكانت رمزا لصراع المثقفين مع كافة عناصر التخلف فى هذه المنطقة من العالم».
يتابع: «ونحن الذين جلسنا إلى هذا العالم الأستاذ العظيم أكثر من ربع قرن التففنا من حوله نؤازره فى ملحمة نضاله مع قوى التخلف لأن قبسا من نور ذكره أضاء عقولنا وقلوبنا، وكان أول درس تلقيناه منه أنه ليس هناك خط فاصل بين الثقافة والمجتمع، أو بين الأديب والحياة، وأنه لا غاية للثقافة وللآداب إلا ترقية المجتمع والحياة، وكان ثانى درس تلقيناه عنه، أن القديم لا نضارة له إلا بالحديث، والأجداد لا يتجددون إلا بالأحفاد، وكل ما عدا هذا ألياف يابسة وعظام من عظام القبور، وكان ثالث درس أخذناه منه هو أن أقانيم التقدم ثلاثة هى، العقل، والحرية، والولاء للمعذبين فى الأرض، وكان رابع درس استلمناه منه، هو أنه لا قومية بغير إنسانية، ولا إنسانية بغير قومية، وكان هناك درس خامس وسادس وسابع كلها مسجلة فى سيرة هذا الرجل العظيم، وسوف تبقى منها الأحاديث والذكر جيلا وراء جيل».
وشباب هذا الجيل يحسون إحساسا غامضا، بأنهم مدينون لطه حسين بأشياء كثيرة، ولا يستطيعون تحديدها، وهذا سر من أسرار الحياة التى تجعل الفكر يتسلسل فى الأجيال فيضىء العقول والقلوب كنور الفجر الذى يغمر الدنيا دون أن ترى مصدره، كما تجعل عمارة الحياة ذاتها تسرى من الأجداد فى الأحفاد، كما تسرى من البذرة فى الثمار وفى الأوراق دائمة الخضرة، ويكفى أن أقول الآن أنه لولا طه حسين لما كانت الجامعة روحا ومنهجا وفلسفة، ولولا طه حسين لما حملت فتاة كتبها إلى مدرجات الجامعة، ولولا طه حسين لما وجد الملايين من أبناء الفقراء طريقهم إلى العلم، أول حقوق الإنسان، يوزع عليهم بالمجان كما يوزع الماء والهواء، من الكُتّاب إلى درجة الدكتوراه، ولولا طه حسين لما بقيت للعقل والثقافة هيبة ولا احترام.
لن أقول وداعا يا عقل مصر، فضياؤك الغامر لا يزال يضىء آلاف العقول، وغدا سوف تستضىء به الملايين».