جلس قائد القوات الإنجليزية فى بورسعيد الجنرال «ستوكويل» يكتب شروط استسلام المدينة لعرضها على المحافظ «محمود رياض»، والقائد العسكرى المسؤول العميد صلاح الدين الموجى، لكنهما رفضا التوقيع، فانفض الاجتماع الذى شهدته القنصلية الإيطالية فى بورسعيد يوم 6 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1956، وكان تاسع أيام العدوان الثلاثى «بريطانيا وفرنسا وإسرائيل» ضد مصر، حسبما يذكر اللواء حسن البدرى، والعقيد دكتور فطين أحمد فريد، فى كتابهما «حرب التواطؤ الثلاثى - العدوان الصهيونى الأنجلو فرنسى على مصر خريف 1956».
كان العدوان يتواصل، والمقاومة تتصاعد، وكان «الموجى» فى مهمته رئيسا لأركان القيادة الشرقية منذ 4 نوفمبر 1956، ووفقا للبدرى: «وصل «الموجى» إلى المدينة مساء ليبدأ المرور على دفاعاتها، ويعدل من أوضاعها نظرًا لكفاءته القتالية العالية، ولأنه كان على دراية تامة بأساليب القادة البريطانيين فى القتال، لملازمته إياهم نحو خمس سنوات فى دراسات عليا بالكليات البريطانية والمناورات الميدانية».
بعد يومين من بداية مهمته وقع «الموجى» فى الأسر حوالى الساعة العاشرة صباح 6 نوفمبر 1956، ورغم ذلك رفض التوقيع على استسلام المدينة، يذكر «البدرى»، أنه فى نفس الوقت الذى وقع فيه أسيرًا كان القائد الإنجليزى «ستوكويل» ومساعده الفرنسى الجنرال «بوفر»، ومارشال الجو «بارنت» يستقلون لنشا لمقابلة الكونت «فيتشى ماريرى» قنصل إيطاليا فى بورسعيد، الذى اقترح عليهم الحضور إلى دار القنصلية للبحث عن مخرج، يجنب المدينة المزيد من الخراب، وصادف اقتراحه هوى فى نفوسهم.
اقترب اللنش من مبنى هيئة قناة السويس بجوار أحواض السفن جنوب الميناء، فانهالت عليه طلقات المقاومين التى أصابت جسم اللنش برصاصات كثيرة، بينما لم يتعرض ركابه لأية خسائر، واستدار اللنش بعيدًا عن المنطقة، وعندما وصل إلى ميناء الصيد عند الطرف الشمالى للقناة وجدها آمنة، فنزل «ستوكويل» وصاحباه، واتجهوا مباشرة إلى مبنى القنصلية الإيطالية تسبقهم دبابة لتأمين الطريق.
يؤكد «البدرى»: «جلس» ستوكويل «يكتب شروط الاستسلام، التى انتوى عرضها على المحافظ والقائد العسكرى المسؤول، واهتم بأن يضمنها شرطا بضرورة عمل حفل استسلام كبير، يذاع على الملأ بمختلف وسائل الإعلام، وعبثا حاول «ستوكويل» أن يراود المحافظ أو الموجى «الذى كان أسيرا» على التوقيع، وعاد «ستوكويل» إلى مركز قيادته، ليباشر إدارة المعركة التى بلغت وقتها الذروة فى الشدة».
يذكر ضياء الدين القاضى فى كتابه «الأطلس التاريخى لبطولات بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى عام 1956»: «بدأ سلاح الجو البريطانى والفرنسى فى قصف المدينة، وبعدها قام الأسطول البحرى بالقصف، فتم تدمير حى المناخ بالكامل، وأحرقت ودمرت منازل حى العرب على امتداد شوارع توفيق وعبادى وعباس، فنشبت الحرائق وانهارت المبانى على سكانها، واختلطت جثث الشهداء بأنقاض المبانى، وكان أكبر الشهداء سنا الحاج حسن مصطفى القاضى بشارع توفيق إثر تهدم أنقاض منزله عليه».
يضيف القاضى: «فى الحادية عشرة صباحا بدأ إنزال القطع البرمائية لاحتلال الشاطئ حاملة رجال الكوماندوز البحريين، وبعد ذلك البعابع المحملة بالدبابات، وتحت ستار سحب سوداء كثيفة متراكمة على الشاطئ، تم إنزال كتيبة من القوات البحرية الإنجليزية وأورطة دبابات، كما اقترب الأسطولان البريطانى والفرنسى من رصيف ديلسيبس، وأنزلت البعابع الدبابات السنتريون الضخمة والمصفحات إلى المدينة من جهة حى الأفرنج عند رصيف الميناء من نقطتين، الأولى عند الكازينو بالاس، والثانية عند تقاطع شارع السلطان حسين ومحمد محمود».
كان عبدالفتاح أبوالفضل، قائدا للمقاومة السرية فى بورسعيد التى تشكلت بقرار من جمال عبدالناصر، ويذكر فى كتابه «كنت نائبا لرئيس المخابرات»: «انتشر جنود العدو فى أنحاء مدينة بورسعيد، وكانت تقابلهم الجموع الشعبية المسلحة إلى أن وصلوا داخل الشوارع، فكانت المعارك العنيفة مع الشعب الرابض فى كمائن فوق الأسطح وفوق أشجار الحدائق وخلف البواكى ومن داخل المنازل، وكانت معركة رهيبة ولكن غير متكافئة، حيث تمكن العدو من هدم كثير من المنازل بواسطة مدافع الدبابات وكانت هناك بطولات كثيرة، منها «عملية الأشجار» التى قام فيها بعض أفراد من الفدائيين بالانتشار فوق أشجار حديقة البلدية «حديقة الباشا»، وانتظروا مرور إحدى دبابات العدو وخلفها عدد من الجنود المترجلين، وفجأة فتحوا عليهم النيران من فوق الأشجار فقضوا على جميع المترجلين من العدو وقبل أن توجه مدافع الدبابات إليهم النيران تمكنوا من النزول والهروب.
يضيف «أبوالفضل»: «عند تقاطع شارع محمد على بالقرب من شارع الحميدى أمام كنيسة الأقباط، كانت هناك دبابة بريطانية مفتوحة البرج، ويقف به ضابط يراقب المنطقة وخلفه دبابة أخرى، وفجأة خرج الفدائى عبدالله إبراهيم وبيده قنبلة يدوية، واندفع بسرعة فائقة بجانب الدبابة وقبل أن يأخذ الضابط حذره ألقى الفدائى بالقنبلة داخل فتحة الدبابة وأصيب الضابط، وحدث انفجار داخل الدبابة أوقفها، وأطلقت الدبابة الثانية النيران على البطل واستشهد الفدائى عبدالله إبراهيم».