عاد الجنرال «ستوكويل» قائد القوات الإنجليزية التى غزت مدينة بورسعيد ومعها القوات الفرنسية إلى سفينة القيادة ليأخذ قسطا من الراحة يوم 6 نوفمبر 1956.. كان اليوم شاقا وطويلا، وبينما الشمس تختفى خلف خط الأفق فاجأه ياوره بصدمة العمر، إذ ناوله برقية عاجلة من حكومته فى لندن تأمره بوقف إطلاق النار، اعتبارًا من الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وفقًا لما يصفه ويذكره اللواء أركان حرب «حسن البدرى»، وعقيد دكتور فطين أحمد فريد، فى كتابهما «حرب التواطؤ الثلاثى - العدوان الصهيونى الأنجلو فرنسى 1956».
كان القرار فى اليوم التاسع للعدوان الثلاثى ضد مصر، الذى بدأته إسرائيل بغارة جوية يوم 29 أكتوبر 1956.. يذكر «البدرى»، أنه بعد إبلاغ «ستوكويل» كان قائد القوات الفرنسية الجنرال «بوفو» يجلس إلى طعامه حتى جاءته إشارة فى الساعة السادسة و42 دقيقة تنذره بقرب صدور الأوامر بإيقاف النيران فى المسرح، وبمجرد أن أكمل عشاءه دخل عليه أحد مرؤوسيه فى الساعة الثامنة ليخطره بأن محطة الإذاعة البريطانية أعلنت للتو عن قبول حكومتى بريطانيا وفرنسا وقف النيران فى منتصف الليل، بتوقيت جرينتش، أى الساعة الثانية بعد منتصف الليل بتوقيت القاهرة، ويصف «بوفر» ما أصابه عندئذ بأنها كضربة قوية أصابت فُم معدته.
دخلت «بورسعيد» فى بسالتها مرحلة جديدة بعد هذا القرار، ففيما حاول «ستوكويل» فرض سيطرته على المدينة وقيامه بمحاولة إعادة الحياة إلى مجراها الطبيعى والتودد إلى الأهالى، كانت المقاومة الفدائية والشعبية تتواصل ضد قواته الغازية.. يؤكد «البدرى»: «لم تبد جماهير الشعب أى استعداد لمهادنة المعتدين، فمنذ اللحظة الأولى حرصوا حتى قبل أن يتم توحيد الجهود داخل المدينة على رفض التعامل مع قوات الاحتلال رغم الإغراءات السخية، وشاركوا بجدية فى أعمال المقاومة، ثم راحت المقاومة تأخذ أشكالا أشد ضراوة من مجرد توزيع المنشورات، وكتابة الشعارات على الحوائط والسخرية بالمعتدين».
يضيف «البدرى»: «دخلت عناصر الصاعقة إلى المدينة يوم 6 نوفمبر 1956 عبر بحيرة المنزلة، ووصلت إلى كوبرى الرسوة المكلفة بنسفه، إلا أنها قبل أن تشعل المتفجرات، جاءها الأمر بإلغاء النسف، واستطلاع المنطقة بغاية الدقة، ثم العودة إلى قرية المنزلة جنوب البحيرة التى تحمل اسمها، وفى 8 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1956 صار توزيع عناصر الصاعقة فى مجموعات صغيرة يقود كل واحدة منها ضابط متمرس على الأعمال الفدائية، وأثناء عودة إحدى هذه الجماعات من مهمة استطلاع أوضاع العدو، تصدت لها القوات البريطانية عند شاطئ المنزلة، فسارع الضابط إلى أحد المستشفيات، حيث ربط ساقه بضمادات أخفى داخلها الوثائق التى يحملها، ثم غادر بورسعيد بقطار الجرحى».
يرصد كتاب «الأطلس التاريخى لبطولات شعب بورسعيد أثناء العدوان الثلاثى 1956»، إعداد «ضياء الدين حسن القاضى»، تنوع أشكال المقاومة الفدائية والشعبية يوم 8 نوفمبر 1956، قائلا: «نجح المحافظ والحاكم العسكرى للمدينة محمد رياض فى بث روح المقاومة السلبية بين صفوف أبناء الشعب البورسعيدى، فأغلقت المحال أبوابها فى وجه الأعداء، ورفضت التعامل مع تلك القوات، كما نجح فى بث تلك الروح بين العمال الذين رفضوا التعامل والتعاون مع الأعداء رغم المحاولات الكثيرة ووسائل الترغيب، وكان يعاون المحافظ فى ذلك العمل ضباط المباحث وعلى رأسهم محمود عبدالحى صلاح، ومنير الألفى، ولم ينس المهندس محمد توفيق الديب، مدير البلدية يوم أن حضر الميجور وليامز والكولونيل بولدرنج من سلاح المهندسين ثم أحاطوا به محاولين إرهابه بتحريض العمال على دعم التعاون معهم».
يذكر «القاضى» أن القوات المعتدية قامت بالشوشرة على الإذاعة المصرية من خلال جهاز وضعته فى حديقة فيلا طيرة التى احتلتها، كما بثت إرسال إذاعة موجهة من جزيرة قبرص تذيع الأكاذيب والسموم ضد مصر وكفاح الشعب البورسعيدى تحت اسم «صوت مصر الحرة» ولما لمست القوات المعتدية عدم استجابة الأهالى لسماع تلك السموم، قامت بجمع أكثر من 5 آلاف جهاز راديو من الأهالى وتحطيمها لعدم ربط بورسعيد بالعالم الخارجى، فأضيفت مهمة جديدة لرجال المقاومة وهى نقل أخبار مصر لداخل بورسعيد».
يؤكد القاضى: «قام الفدائيون بإلقاء الرعب فى قلوب القوات المعتدية فقاموا بخطف أسلحتهم، فصدرت لهم الأوامر بالسير فى جماعات وعدم السير فرادى، كما صدرت لهم الأوامر بربط أسلحتهم بأجسامهم، ولم يمنع ذلك من نشاط الفدائيين بل أصبحت الدوريات صيدا ثمينا لهم»..يضيف القاضى: «فى هذا اليوم استمر العدو فى ضرب المنازل التى يشك فى اختباء الفدائيين فيها، وقاموا بالاعتداء على رجال الشرطة المصريين، وقاموا بتجريدهم من أسلحتهم، وبدأوا فى القبض على المواطنين واستجوابهم لمعرفة أماكن الفدائيين».