قبل قرابة 152 عاما، سطر المصريون ملحمة فى التفانى والعمل بحفر قناة السويس بسواعد قرابة مليون عامل، واكتسبت القناة أهميتها منذ نشأتها من موقعها الجغرافى الرائع، وكذلك دورها الرئيسى كشريان لحركة الملاحة الدولية، واستمرت الدولة المصرية فى الاعتناء بهذا المرفق الحيوى على مر العصور، حتى جاء عام 2015 ليحمل للمصريين تطورا فارقا بتدشين قناة سويس جديدة لتكون شريانا آخر بعوائد اقتصادية جيدة، ثم جاءت أزمة «إيفر جيفن» ونجاح العاملين وإدارة القناة فى تعويم السفينة الجانحة، لتُدلل على أهمية قناة السويس كأهم شريان ملاحى عالمى واحترافية العاملين بها، ثم بدأ العمل فى مرحلة توسعة وتعميق المجرى الملاحى للقناة، وهو الأمر الذى يأتى كمرحلة ثالثة فى مسيرة تطوير الشريان الملاحى الأبرز فى العالم.
قناة السويس الجديدة ونقلة فى التجارة العالمية
تكشف الإحصاءات الرسمية تحقيق إيرادات ضخمة تبلغ 148.1 مليار دولار، وتظل إلى الآن واحدة من أهم موارد النقد الأجنبى للخزانة العامة للدولة المصرية، أما عن عوائد القناة الجديدة وكيف انعكست على الأداء الإجمالى للقناة، قال الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس فى تصريحات صحفية بتاريخ 4 أغسطس الماضى، إن القناة الجديدة ساهمت فى نقلة كبيرة فى التجارة العالمية، حيث سجلت بعد 6 أعوام عبور 108 آلاف و957 سفينة، موضحًا أن قناة السويس بعد حفر القناة الجديدة حققت 33 مليار دولار، وحمولات بلغت 6.6 مليار طن، ليست هذه المميزات والإنجازات وحسب، لكن إدارة القناة تضع استراتيجية تستهدف زيادة نسبتها من التجارة العالمية خلال السنوات المقبلة إلى 12% مقارنة بـ 9% حاليا، حيث تستحوذ القناة على 9% من حجم التجارة العالمية، و24.5% من إجمالى حركة الحاويات على مستوى العالم، و100% من إجمالى تجارة الحاويات المنقولة بحرا بين آسيا وأوروبا.
استراتيجية تطوير القناة
تضمن استمرار العمل على تطوير وصيانة المجرى الملاحى، من خلال المحافظة على العمق والعرض، وكذلك تم تطوير 16 محطة إرشاد ملاحى على طول خط القناة، وتزويدها بكل الوسائل التكنولوجية الحديثة، مع رفع كفاءة القناة فى مواجهة الطوارئ، من خلال رفع كفاءة 5 جراجات قديمة، وبناء خمسة جديدة حاليا، موزعة على القناة الأصلية والقناة الجديدة.
وخلال مايو 2021 صدق الرئيس عبدالفتاح السيسى، على خطة توسعة وتعميق المنطقة الجنوبية لقناة السويس بطول 30 كيلومترا، بالإضافة إلى عمل ازدواج جديد فى مجرى القناة بمنطقة البحيرات الصغرى بطول 10 كيلومترات، وشرح الفريق أسامة ربيع، مقترحه أمام الرئيس السيسى، خلال افتتاحه عددا من المشروعات بهيئة قناة السويس مايو الماضى، قائلاً إن المقترح يشمل توسعة وتعميق المجرى الملاحى لقناة السويس بداية من الكيلو 132 جنوب البحيرات المرة الصغرى حتى الكيلو 162 وهو نهاية القناة بمخرج السويس، بالإضافة إلى عمل ازدواج من الكيلو 122 إلى الكيلو 132 بالبحيرات المرة، بطول 10 كيلومترات جهة الغرب لتنضم إلى قناة السويس الجديدة وتكون امتدادا لها باتجاه الجنوب. وأكد ربيع، أن مشروع الازدواج الجديد بطول 10 كيلومترات سيحسن من الملاحة داخل قناة السويس، ويعادل 25% من مسافة الـ40 كيلومترا التى لا يوجد بها ازدواج فى المجرى الملاحى، موضحاً أن المشروع سيزيد من الطاقة الاستيعابية للقناة لتتحمل 6 سفن أخرى، 3 فى كل قناة، وأن أعمال التكريك فى المنطقة المستهدفة للازدواج 45 مليون متر مكعب من الرمال.
أما عن مشروع التوسعة والتعميق لباقى مجرى القناة حتى نهايته جنوبا، فأوضح أن التوسعة ستكون 40 مترا باتجاه الشرق، وتعميق المجرى من 66 قدما إلى 72 قدما، مؤكدا أن هذه العملية ستحسن من عبور السفن وستزيد من المسطح المائى، بحيث لا يؤثر التيار المائى والرياح على مؤخرة السفن الداخلة من القطاع الجنوبى، وبالتالى زيادة قدرة المرشد والقبطان على قيادة السفينة بسهولة، كما سيقلل التيارات الملاحية القادمة من الجنوب والتى تصل من 4 إلى 5 عقدات، ولفت إلى إجراء أبحاث هندسية على هذا المشروع، وإجراء حسابات ومعادلات فنية لرؤية مدى تأثير ذلك على عبور السفن، وتطبيقها على السفينة إيفر جيفن، التى كانت قد أغلقت مجرى القناة بسبب جنوحها، موضحا أنه بعد حساب مساحة القطاع المائى إلى الجزء المغمور من السفينة، تم التوصل إلى معادلة أفضل بتغيير مساحتى السطح والعمق ستساعد على تحسين عبور السفن فى المنطقة التى شهدت الحادث، وعن أعمال الحفر فى هذه المنطقة قال إنها 3 ملايين متر مكعب، بينما أعمال التكريك 42 مليون متر مكعب، فيما يستغرق وقت العمل نحو 24 شهرا لإنهاء المشروع.
المنطقة الاقتصادية ومستقبل استثمارى واعد
فى نفس الوقت تولى الدولة المصرية اهتماما واسعا بمشروع تنمية محور قناة السويس، باعتباره أحد أهم المشاريع القومية الرئيسية، التى من شأنها جذب المزيد من الاستثمارات، وتحويل مصر لمركز اقتصادى عالمى، حيث شهد محور قناة السويس طفرة نوعية، خاصة منذ أن أطلق الرئيس السيسى، شارة البدء فى إنشاء مجرى ملاحى جديد للقناة وتعميق المجرى الحالى، فى خط متواز مع مشروع تنمية محور قناة السويس بالكامل، وهو الحلم المصرى العظيم الذى يهدف لتعظيم دور إقليم القناة كمركز لوجيستى وصناعى عالمى متكامل، وكشفت إحصاءات رسمية صادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، أن المنطقة الاقتصادية من أهم المشروعات ضمن خريطة مشروعات مصر، وبلغت استثماراتها 45 مليار دولار فى 192 مشروعا وتبلغ مساحة المنطقة الاقتصادية لقناة السويس بحسب آخر الأرقام قبل جائحة فيروس كورونا 460.6 كيلومتر مربع، وتستعد المنطقة الاقتصادية لغزو قلب التجارة العالمية عن طريق 6 موانئ بحرية و4 مناطق صناعية، إذ تشمل المنطقة مينائى شرق وغرب بورسعيد، وميناء العريش، وميناء العين السخنة، بالإضافة إلى ميناء الطور، وميناء الأدبية، أما عن المناطق الصناعية، فهناك منطقة صناعية بشرق بورسعيد، ومنطقة وادى التكنولوجيا بشرق الإسماعيلية، وأخرى بالقنطرة، علاوة على، منطقة صناعية بالعين السخنة.
المنطقة اقتصادية تستغل الإمكانات الحالية المتوفرة حول محور قناة السويس، كالموانئ البحرية المتواجدة والظهير الجغرافى لها، فى إنشاء مناطق صناعية ولوجستية تعتمد على استغلال البضائع المارة فى قناة السويس، ويمكن من خلال ذلك أيضًا توفير آلاف من فرص العمل للشباب، وتهدف أيضا إلى خلق كيانات ومجتمعات عمرانية جديدة فى المنطقة لجذب الكثافة السكانية بمنطقة القناة وسيناء، فكما ساهمت قناة السويس من مئات السنوات فى ظهور مدن جديدة حولها كبورسعيد والإسماعيلية، استُهدف من خلال حفر قناة السويس الجديدة والمنطقة الاقتصادية للقناة خلق مدن ومجتمعات عمرانية جديدة أيضا، هذا بجانب، الاستفادة من النمو فى حجم التجارة العالمية خاصة فى وجود كيانات اقتصادية عملاقة كالصين والهند وجنوب شرق آسيا والتى من المتوقع أن تغزو السوق الأوروبية وأمريكا فى الفترة القادمة، والتى ستمر حتمًا من خلال قناة السويس.
إن الأسس والدوافع التى بُنيت عليها المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، سامية، تستهدف خلق فرص عمل للشباب وإقامة مجتمعات عمرانية متكاملة، فالمزايا التى تتمتع بها المنطقة وتجعلها من أهم وأفضل المناطق الاستثمارية، سامية أيضا، حيث تتمتع المنطقة الاقتصادية بموقع جغرافى عبقرى، فمن خلالها يسهل الوصول لـ2 مليار مستهلك بمختلف الأسواق الإقليمية والدولية، كما تتميز المنطقة بـ«صفر %» جمارك لـ 22 دولة عربية، و24 دولة أفريقية، وأيضا تتمتع المنطقة بسياسة الشباك الواحد فى إنهاء كل ما يتعلق بالاستثمار بها، حيث يمكن للمستثمر بها تأسيس الشركة وإنهاء كل الإجراءات خلال 48 ساعة فقط، علاوة على، إمكانية الدخول فى شراكات متنوعة ومختلفة، بالإضافة إلى، البنية التحتية المتكاملة من شبكات طرق وسكك حديدية وأنفاق عملاقة وكبارى عائمة ومحطة كهرباء وأخرى لتحلية المياه، كما تتمتع المنطقة أيضًا ببنية تشريعية جاذبة للاستثمار، من خلال قانون الاستثمار الجديد رقم 72 لسنة 2017، علاوة على، لوائح المنطقة الاقتصادية، والتى تتمثل فى الحوافز الضريبية، بجانب صفر% جمارك، تتمتع أيضًا بـ«صفر» قيمة مضافة، و50% إعفاء من ضريبة أرباح الشركات.
ولا تقتصر حوافز المنطقة الاقتصادية على الحوافز الضريبية فقط، فهناك حوافز أخرى غير ضريبية تتميز بها المنطقة أيضًا، فهى تساهم مع المستثمر فى تكلفة المرافق وتدريب العمالة وتوفير آليات ميسرة لسداد رسوم حق الانتفاع، كما تتميز بوجود مراكز تدريب عالمية لتدريب العمالة الفنية، كمركز سيمنس الألمانى الجارى تنفيذه حاليا، ومركز آخر مع الصين، هذا بجانب، ما توفره المنطقة من ضمانات قانونية، حيث تتمتع جميع الشركات بالحماية القانونية من كل أشكال التمييز أو المصادرة أو التأميم أو الاستيلاء أو إنهاء الترخيص أو وقف النشاط، كما أن للشركات كامل الحق فى تحويل رؤوس أموالها وأرباحها من خلال الجهاز المصرفى بكامل الحرية، فضلا عن آليات تسوية المنازعات.
مميزات قناة السويس
هى أقصر طريق يربط بين الشرق والغرب ولها أهمية اقتصادية واستراتيجية كبرى، ومنذ إنشاء القناة أصبحت لموقع مصر الجغرافى أهمية خاصة، حيث أصبحت نقطة وصل محورية بين دول العالم تتحكم بشكل مباشر فى حركة التجارة العالمية ومن ثم فى اقتصاد الدول، خاصةً بعد إنشاء قناة السويس الجديدة لتشكل داعما أساسيا لقوة الممر الملاحى، والدليل على ذلك عندما توقفت حركة الملاحة فى القناة بسبب أزمة ايفرجيفن شهدت أسعار النفط العالمية ارتفاعًا بأكثر من 12% وكذلك شهدت سلع عدة ارتفاعات متتالية وتأثرت الكثير من الدول بهذه الأزمة.
وتأخذ القناة أهمية كبرى لما لها من مميزات كبيرة، إذ تعتبر أطول قناة ملاحية فى العالم بدون أهوسة، ونسبة الحوادث فيها تكاد تكون معدومة عند مقارنتها بالقنوات الأخرى، وتتم حركة الملاحة فيها ليلا ونهارا، كما أنها مهيأة لعمليات التوسيع والتعميق كلما لزم الأمر لمجابهة ما يحدث من تطوير فى أحجام وحمولات السفن مثلما يحدث الآن، أيضا هى مزودة بنظام إدارة حركة السفن (VTMS)، وهو نظام يقوم على استخدام أحدث شبكات الرادار والكمبيوتر، ليكشف ويتابع حركة السفن على طول القناة، ويتيح بذلك إمكانية التدخل فى أوقات الطوارئ، وتستوعب القناة عبور السفن بحمولة مخففة، لحاملات النفط الخام الكبيرة جداً (VLCCs) والضخمة (ULCCs)، وكل السفن الفارغة مهما كانت حمولتها، وهى الإمكانيات والمميزات التى لا تجدها فى أى مجرى ملاحى مماثل فى العالم.
كل هذه المميزات جعلت القناة على مر تاريخها تحقق أرقاما غير مسبوقة من حيث عدد السفن والحمولات والعوائد، حيث كشفت إحصائيات الملاحة بقناة السويس أنها سجلت منذ افتتاحها فى 17 نوفمبر عام 1869، وحتى يومنا هذا عبور قرابة 1.4 مليون سفينة، بإجمالى حمولات صافية تصل إلى 31.1 مليار طن، وكميات بضائع تقدر بنحو 24.8 مليار طن بين الشرق والغرب، لتعكس الأهمية الاستراتيجية التى تتمتع بها القناة على مدار 152 عاما ضمن منظومة حركة التجارة العالمية.