عزوف تام لكثير من أهل النخبة المصرية عن العمل الحزبى فى السنوات الأخيرة، مما يطرح الكثير من علامات الاستفهام وراء هذا الغياب عن المشاركة الفعالة من داخل مقرات الأحزاب المنتشرة فى مختلف انحاء الجمهورية فى مرحلة تمر بها البلاد يصفها الغالبية بـ"الحرجة" التى تحتاج لتضافر الجهود لتجاوزها، فمن المسئول عن هذا العزوف لكثير من المثقفين والشخصيات العامة الذين لم يكفوا يومًا عن تناول الشأن العام من خلال أحاديث هنا أو هناك؟!، وما هى الأسباب التى أدت إلى فراغ الكثير من الأحزاب من أهل النخبة سواء بالرحيل عنها أو رفضها منذ البداية؟.
فشل الأحزاب
وفى البداية، قال الدكتور على السلمى، نائب رئيس وزراء مصر الأسبق، أن السبب الجوهرى وراء عزوف النخبة من المشاركة فى الحياة الحزبية هو أن الأحزاب فشلت فى إثبات دورها فى المجتمع المصرى وفشلت فى تقديم أى مشروع أو برنامج أو حلول أو اقتراحات لتطوير الحياة فى مصر اقتصاديًا أو تعليمًا أو أى ملف آخر.
وأضاف "السلمى" لـ"انفراد": "الأحزاب فشلت فشل ذريع، حتى المعارضة فشلت.. مش عارفين بيعملوا أيه.. الناس اللى بتحترم عقولها وتاريخها أو قدراتها تعزف عن المشاركة فى هذه الأحزاب شبة الورقية التى كانت تسمى فيما قبل بالكرتونية، ووصلت الآن إلى ورقية أى أقل من الكرتونية وليس لها وجود".
تابع: "لا يوجد فى الأحزاب زعماء أو مسئولين أو برامج أو مقترحات أو تواجد فى الشارع، فإن مقراتها ميتة ولا شك أن من يحترم نفسه يكون بعيدًا عن المشاركة فيها.. الأحزاب ميتة إكلينيكيا، ويرأسها من يحافظون على الأوضاع القائمة، لأن مصلحتهم فى المحافظة على الشكل، لكن الفعل الناتج لا يوجد".
وتساءل "السلمى": "ماذا قدمت الأحزاب التى كانت كبيرة، وأصبحت صغيرة فى السنوات الماضية؟.. يكتفون بالفرجة، حتى فرجتهم سلبية ولذا يمكن القول أن الأحزاب ماتت فى مصر.. الأحزاب الجديدة التى تسمى بأحزاب الشباب كلها شاربة من نفس الكوب".
وعن تجاربه السابقة داخل حزبى الوفد والجبهة الديمقراطية قال "السلمى": "تجارب مريرة تثبت أن هناك تفكك حزبى، وعدم مؤسسية بأن يصبح الحزب مؤسسة منفصلة عن الأشخاص مثل حزب الوفد الذى كان قائم على ثوابت وطنية والدفاع عن الدستور والحق فى الحياة".
الفساد السياسى فى العمل الحزبى
فيما قالت الكتابة الصحفية سكينة فؤاد، مستشارة الرئيس السابق عدلى منصور، إن عزوف الكثير من المثقفين وأهل النخبة عن المشاركة فى الحياة الحزبية يأتى نتيجة ميراث فساد سياسى قبل 25 يناير 2011، وآن الأوان أن يتبدل ويتغير وأن تعتبر الأحزاب أن العمل الحزبى والحياة الحزبية هى التى تستند إلى جماهيرية وبرامج واضحة معلنة جزء من البناء الديمقراطى التى تهدف إليه مصر الجديدة.
وأضافت سكينة فؤاد: "الحقيقة أن انتخابات البرلمان كانت أهم مقياس على عدم معرفة الناخب المصرى بالأحزاب، وكانت علامة الاستفهام الكبيرة هى أن كثير من الذين طرحوا أنفسهم لم يكن هناك بينهم وبين القواعد الجماهيرية تعارف حقيقى، وهنا الإشكالية والعزوف كان بسبب نقص المعرفة لكثير من الوجوه التى تقدمت للعملية الانتخابية من مرشحى الأحزاب".
وعن تجربتها الحزبية فى حزب الجبهة الديمقراطية وإمكانية اعادتها فى حزب آخر، قالت سكينة فؤاد: "أنا حسيت ككاتبة أن انتمائى الوطنى لمصر بكل أطيافها التى تشارك فى مواجهة التحديات التى تمر بها، كما أن موقف الكاتب يحتاج إلى حرية أكبر من الالتزام بعمل حزبى معين، وأن ينتمى لكل من ينتمى لهذه الأرض ويدافع عنها ويشارك فى تصحيح المسار والتبصير بالايجابيات والسلبيات".
تحذيرات من خطورة غياب الحياة الحزبية
وفى سياق متصل، علق عبد الله السناوى الكاتب الصحفى والمحلل السياسى على عدم مشاركة الكثير من المثقفين المصريين وأهل النخبة فى الحياة الحزبية، قائلاً: "لا توجد حياة حزبية حقيقية فى مصر.. الحياة الحزبية تنشأ فى مجال عام مفتوح، وقواعد تتيح حق التظاهر السلمى، وتتيح كل الحقوق المنصوص عليها فى الدستور".
وأضاف "السناوى": "غياب الحياة الحزبية مؤشر خطر لأنه وفقاً للدستور نظام الحكم يقوم على التعددية الحزبية، وتداول السلطة وغياب الأحزاب الحقيقية مؤشر خطير فى تراجع الحياة السياسية".
ورداً على سؤال أن كانت هناك أحزاب تعبر عن التيار الناصرى على أرض الواقع، قال:"نستطيع الإجابة بنعم ولا فى نفس الوقت، نعم فى أحزاب تنتسب للمشروع الناصرى، ولكنهم لا يقدمون تصورات سياسية تليق بحجم المشروع، وأقل بكثير جداً من الانتساب لجمال عبد الناصر".
الديمقراطية غائبة عن الأحزاب
بينما قال الدكتور سمير غطاس، عضو مجلس النواب، رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية، إن عزوف أهل النخبة المصرية عن المشاركة الحزبية، له علاقة بالأحزاب نفسها لأن أغلبها أن لم يكن كلها ليست أحزاباً تلبى الحد الأدنى من أحلام النخبة، فلا هى لها جذور وقاعدة اجتماعية واسعة ولا لها برنامج مميز.
وأضاف "غطاس" فى تصريح خاص لـ"انفراد": "بمتابعة برامج أغلب الأحزاب نجد تداخل شديد، ولا يوجد شئ يميز حزب عن آخر ولا نجد من يعبر عن تيارات سياسية أو قوى اجتماعية واضحة وصريحة.. والأهم من ذلك هو غياب الديمقراطية عن هذه الأحزاب السياسية وهو ما يؤدى إلى نفور النخبة عن المشاركة السياسية".
وتابع "غطاس": "هذه الأحزاب هى أحزاب عائلات أو فروع لشركات وبالتالى لا يوجد متسع من مكان لمشاركة النخبة فى هذه الأحزاب إلا لبعض الساقطين من هذه النخبة للعب دور تكميلى أو تزيينى أو خدمى داخلها لتكميلها أو للتخديم على رئيس الحزب الذى هو فى نفس الوقت هو مالك الحزب".
وعن تجاربه الحزبية السابقة، قال "غطاس": "فى فترة الشباب شكلنا أحزاب سياسية سرية لأنه لم يكن من المسموح فى ذلك الوقت بتشكيل أحزاب غير الحزب الواحد أو ما سمى بالاتحاد الاشتراكى الذى تحول إلى الحزب الوطنى، ولدى سنة سيئة اضطررت فيها للمشاركة فى حزب، بعتذر عنها، وتقريباً حذفتها من حياتى وتاريخى وعدت لمكانى الطبيعى والأصلى بأن أكون مثقفاً وسياسياً محترفاً، ولكن مستقلاً".
المال السياسى
وفى الأثناء، قال الدكتور رفعت السعيد رئيس المجلس الاستشارى بحزب التجمع إن المشاركة فى الحياة الحزبية أصبحت لا تعبر عن موقف سياسى أو اجتماعى، والحياة الحزبية المصرية تطفو فوق سطح المجتمع باستثناء بعض التيارات التى تتمسح بالتأسلم السياسى يكون لها وجود فى بعض المناطق الريفية.
وأوضح "السعيد": "المشهد الحالى لا يشجع الشرفاء بعيدا عن مسمى النخبة على الاشتغال بالسياسة.. الاحتكار الإعلامى يحاول السيطرة على العمل السياسى لذا فإن القضية تحتاج عزل المال عن الفعل السياسى".
وأضاف "السعيد" فى تصريح لـ"انفراد" متسائلا: "متى شاهد المصريون منذ عام 1924 حالة حزبية لا تتقلب كل يوم مثلما حدث مع بعض الشخصيات التى كانت تتراجع عن مواقفها بشكل واضح أمام الرأى العام؟.. هؤلاء الساسة تقلبوا وقدموا على مدى التاريخ نماذج رديئة".
وتابع "السعيد": "الوضع الراهن فيه الانتماء الحزبى شكله لم يختلف عن ما قبل فأصبح فى كثير من الأحزاب ملوث.. يعنى ده منضم لحزب معين، ده يتسأل بيقبض كام؟".
واستطرد قائلاً: "المشهد الحالى لا يشجع الشرفاء بعيدًا عن مسمى النخبة الاشتغال بالسياسة، لأن الإحتكار الإعلامى يحاول السيطرة على العمل السياسى، لذا فإن القضية تحتاج عزل المال عن الفعل السياسى".