الدكتور حاتم زاهر يكتب: سيدنا يوسف تعرض لضغوط وابتلاءات شديدة ولم ينقم على الوطن وعلى الشباب اتخاذه قدوة نبى الله تحدى الصعاب لإيمانه بقوة العمل وساهم فى النهوض بالوطن عندما لجأوا إليه

استكمل معكم اليوم فى الحلقة الثالثة، رحلتنا المستمرة مع الشاب المصرى القلب والانتماء (نبى الله يوسف) والذى يحلو لى دائمًا أن أطلق عليه "يوسف المصرى" لأنه بالرغم من أنه لم يولد بمصر إلا أنه عاش بها حتى توفى ودُفِنَ بأرضها قبل أن يُنْقَل جثمانه بعد وفاته بـ10 سنوات كاملة الى نابلس ليُدْفَن بجوار أبيه يعقوب.

نحن أمام تجربة كاملة لشاب مصرى القلب والانتماء، انتمى إلى مصر وتفاعل مع أهلها، وعاش معهم حلمه الذى أصبح حلم جميع الشباب المصرى، وهو وضع خطة طويلة المدى على مدار 15 عاما كاملى، ليحمى وطنه من المخاطر، ويساهم مع غيره من شباب جيله فى أن يقدم لنا أنجح خطة اقتصادية عرفتها مصر على مر التاريخ.

ويمكن أن نطلق على خطة يوسف الاقتصادية "الخطة السبعية للوقاية من الأزمة" والتى استغرقت 7 سنوات ثم خطة "الثمانى سنوات لإدارة الأزمة" والتى نجح فيها الشاب يوسف مع شباب جيله من المصريين فى تقديم أروع نموذج عرفه التاريخ المصرى القديم والحديث فى الوقاية من الأزمات قبل حدوثها بفترة معقولة، ثم إدارة الأزمة بطريقة أذهلت وما زالت تذهل جميع الاقتصاديين على مستوى العالم، وما زالت هى النموذج الاقتصادى والإدارى الفريد الذى يصلح للتطبيق فى أى زمان ومكان ولكنه يصلح أكثر للنجاح فى مصر حيث عاش جميع أبطال القصة.

ولكن هل كان طريق يوسف فى جميع مراحل حياته كإنسان مفروشا بالورود؟ وهل هبط عليه النجاح مصادفة؟ أم أنه كان أهلاً لهذا النجاح بقوة تحمله وإيمانه القوى بربه ثم بنفسه وقدراته كإنسان وليس كنبى؟ وعزيمته التى لا تلين والتى تحدى بها المستحيل ليقدم لنا أعظم نموذج عرفه التاريخ للشاب المصرى الطموح.

وإليكم بعض وليس كل الضغوط التى تعرض لها يوسف، على مدار رحلته والتى تدفعنى لأن أسأل أى شاب مصرى "ماذا لو تعرضت لنوع واحد من هذه الضغوط؟ وماذا سيكون رد فعلك تجاه وطنك وحلمك؟" الرجاء تأجيل الإجابة لحين الانتهاء من قراءة الحلقة الثالثة تحدى "اليُتْم" لم يجعل من يوسف ناقمًا على الحياة من الثابت تاريخيًا أن والدة يوسف توفت وهو ابن الخمس سنوات، وتولت عمته تربيته بعد وفاه والدته "راحيل" حتى تم تدبير المكيدة له بواسطة إخوته غير الأشقاء، حيث أنه لم يكن له سوى أخ واحد شقيق وهو "بنيامين" وباقى إخوته العشرة كانو غير أشقّاء، فهذا هو أول تحدى ليوسف وهو "اليتم" والذى كان من الممكن أن يغير فى شخصيته ويجعله ناقمًا على الحياة وعلى جميع من حوله، ويهبط من عزيمته، ويجعله غير قادر على التفاعل الإيجابى مع مجتمعه.

لم يحدث ذلك نهائيًا، بل حَوَّلَ يوسف مسار الألم وجعله محفزًا له على زرع الأمل فى نفوس الجميع، وأصبح إحساسه البشرى مرهفًا للدرجة التى جعلته عونًا لكل يتيم، ومعينًا لكل محتاج كما تروى لنا الروايات.

ضغط "صراعات الإخوة" والغيرة منه عاش يوسف مع إخوته الأكبر منه وهو مستضعف بينهم، حيث أن إخوته لاحظوا حب يعقوب ليوسف وأخيه بنيامين، وَالَّذِى كان نابعًا من حبه لأمهم (راحيل) والتى وافتها المنية ويوسف 5 سنوات، هذا الحب ليوسف أثار غيرة إخوته وجعلهم يفكرون فى التخلص منه لتعلق قلب يعقوب الشديد به (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ) ﴿٨﴾؅ والسؤال هنا لكل قارئ "تخيل أنك تعيش فى بيت به كل هذه الصراعات بين الإخوة، وأنك مستهدف منهم ولا يرغبون فى بقاءك بينهم، كيف ستكون حالتك النفسية؟ وهل ستظل على ثباتك النفسى؟".

الطب النفسى أثبت أن هذه الضغوط النفسية فى هذا العمر المبكر تجعل الإنسان عنيفًا ويولد عنده إحساسًا بالقهر ويجعله ساخطًا على المجتمع، ويقلل من قدرته على العطاء، ويجعله شحيحًا فى مشاعره وعطاءه، ولكن يوسف تعامل مع هذا النوع من الضغوط بمنتهى الإيجابية، وحَوَّلَ مسار هذا الألم النفسى إلى طاقة بناء واحتواء، وأصبحت هذه التجربة أكبر محرك له فى حياته، وتحدى نفسه ليثبت لإخوته فيما بعد أنه كان أهلاً لذلك الحب الأبوى، وأن غيرتهم منه لم تكن أبدا فى محلها، وأن الإنسان الناجح يُكْتَب له النجاح تحت أى ظرف، وتحت أى ضغوط، بشرط المتلاك الهِمَّة والعزيمة والإرادة التى تؤهله لنيل ذلك النجاح.

ضغط الاختطاف والرمى فى "البئر" تخيلوا لو أن أحدا منا تعرض لهذه التجربة المريرة من أن يدبر لك إخوتك مكيدة للتخلص منك (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) ﴿٩﴾؅ ويتم الاستقرار على أن يلقون بك فى بئر مياه لا تعرف ماذا سيكون مصيرك فيه؟ وقتها تسأل نفسك "هل سأموت أم سأنجو؟ ولِمَ يفعل معى إخوتى هذا؟" وهل ستتحمل هذا النوع من الضغوط؟ وما هو التغير النفسى الذى سيحل بك نتيجة التعرض لتجربة مريرة مثل هذه التجربة؟ هل ستحتفظ بثباتك النفسى واتزانك الانفعالى؟ ماذا لو تعرض شباب اليوم لتجربة مثل هذه؟ وكيف سيكون شعوره؟ وهل بعدها سيتحدى نفسه مثلما فعل يوسف ليثبت للجميع أن الإنسان مهما واجه من مشكلات وعقبات فى حياته فإنه مع الرغبة القوية والإرادة والحلم فلا يوجد مستحيل؟.

ضغط التربية فى بيت غريب وفى بلد غريب استقبلت مصر يوسف وهو ابن الثالثة عشر، وعاش وتربى فى بيت "بوتيفار" عزيزُ مصر مع زوجته "زليخا" (وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ﴿٢١﴾؅ وتخبرنا الروايات أن يوسف تلقى تعليمه وتدريبه على يد معلميه من المصريين، وتعلم فنون الزراعة، والطب، والهندسة، والفلك، والاقتصاد، على يد أمهر العلماء المصريين، والذين لم يبخلوا عليه بعلمهم، ما خلق بداخله شعورًا بالعرفان بالجميل لمعلميه المصريين، الذى انعكس فيما بعد على رغبته فى رد ذلك الجميل لهم ولمصر ولجميع المصريين، الذى أصبح بحكم انتماءه لهم واحدًا منهم.

أتساءل هنا "ماذا لو تعرض أحد شبابنا اليوم لتجربة مثل هذه؟ وهى أن تتربى فى بيت غير بيتك، ووطن غير وطنك؟ وبين أناس لغتهم غير لغتك؟ ودينهم غير دينك؟ هل ستظل على ثباتك النفسى؟ وهل ستظل قادرًا على العطاء؟ وهل ستظل على حماسك لتحقيق حلمك مع اختلاف الأوطان؟".

ضغط الإغواء الجنسى ومراودة يوسف عن نفسه تعرض يوسف عليه السلام لأشهر تجربة تحرش على مر التاريخ، حينما حاولت "زليخا" امرأة العزيز إغواءه بكل الطرق (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاى ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ﴿٢٣﴾؅ ولكن يوسف بالرغم من أنه كان فى ريعان الشباب (كان فى معظم الروايات ابن الثالثة والثلاثين) وامرأة ايضا فى ريعان الشباب (40 سنة) وفى غرفة مغلقة.

ولكن يوسف لم ينساق ولم يبرر لنفسه الخطأ ولم يقل "أنا مضطر لذلك" بل قاوم نفسه واستعان بربه ليحميه من الوقوع فى الخطيئة، وقد كان (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ﴿٢٤﴾؅.

ماذا لو تعرضت لتجربة مماثلة؟ هل ستنجح فى الحفاظ على نفسك؟ اليوم أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى وسيلة سهلة لممارسة كل ما هو ممنوع وغير مباح، هل عندكم قوة وعزيمة يوسف أيها الشباب لترفضوا ما لا تقبلونه على أخواتكم؟.. فكلما ازددتم قوة فى هذه النقطة بالذات، كلما أصبحتم أكثر قدرة على إدارة أى أزمة قد تواجهكم فى الحياة.

ضغط الظلم والتشهير تعرض يوسف لنوع آخر من الضغوط، وهو تلفيق تهمة بالزور، والنيل منه ومن سمعته، لتتحدث مصر بالكامل عنه كمجرم وكناكر للجميل، فزعموا أنه تجرأ وحاول النيل من زوجة عزيز مصر، ذلك الرجل الذى رباه فى بيته وتولى تعليمه وإعداده وكأنه ابن له.

تخيل أيها الشاب إحساس يوسف وهو يرى كل هذا الظلم الواقع عليه؟ كيف سيكون شعور يوسف تجاه مصر والمصريين بعد تلفيق هذه التهمة له؟ ماذا لو تعرضت أنت لتجربة مريرة مثل هذه فى وطنك؟ وماذا سيكون رد فعلك حينما يتعرض هذا الوطن لمحنة ويطلبون منك المساهمة فى حلها بعد كل ذلك مثلما طلبوا من يوسف تفسير الحلم؟ هل ستكون وفيًا للوطن؟ أم ستلعنه وتتمنى الهجرة لغيره؟.

"يوسف المظلوم" وضغط الزج فى السجن هذه كانت أقسى انواع الضغوط التى تعرض لها يوسف، أن يتم إيداعه فى السجن وهو مظلوم وجميع من حوله يعلمون ذلك (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ) ﴿٣٥﴾؅ ومع ذلك ارتضى يوسف ولم يعترض بل صبر وكانت فترة السجن هى خير إعداد له لما هو قادم من أيام وسنوات.

أتوقف كثيرا أمام هذه النقطة بالذات، والتى نختتم بها حلقة اليوم، وأسأل الشباب، ماذا لو تعرض أحدكم لتجربة مثل هذه؟ ظلم وتشهير وسجن لسنوات؟ وتعرض الوطن لخطر وطُلِبَ منك المساهمة فى الدفاع عنه هل ستستجيب دون أى شروط أم ستساوم؟ الإجابة كانت عند يوسف.

بعد كل هذه الضغوط التى تعرض لها لسنوات، فإن حبه لهذا الوطن لم يتبدل ورغبته فى المساهمة فى بناء نهضته لم تتغير، فحينما رأى الملك الرؤية الشهيرة وطلب من يوسف تفسيرها لم يساومهم، ولم يطلب منهم مقابل، حتى أنه فسرها لهم ووضع لهم الحل الذى يجعلهم يتغلبون على المشكلة دون أن يطلبوا منه ذلك، ولكنه فعل ذلك من تلقاء نفسه لأنه عشق هذا الوطن، وأصبح وفيًا له ولأهله (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) ﴿٤٦﴾؅ هذه كانت الرؤية، وكان رد يوسف هو التفسير والحل فى نفس الوقت (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) ﴿٤٧﴾؅.




الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;