كانت الساعة التاسعة مساء 30 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1991، حين دخل الدكتور أسامة الباز، مدير مكتب الرئيس مبارك للشؤون السياسية، إلى قاعة العرض الخاص المعدة له لمشاهدة فيلم «ناجى العلى» الذى يتناول سيرة رسام الكاريكاتير الفلسطينى الشهير، بطولة نور الشريف، وقصة وسيناريو بشير الديك، وإخراج عاطف الطيب.
كانت مشاهدة «الباز» فى الأصل مهمة كلفه بها الرئيس مبارك، حسبما يشير الكاتب والناقد مجدى الطيب فى مقاله «شاهد عيان على اتهام «الشريف» بالخيانة العظمى» بجريدة «القاهرة، 15 أغسطس 2015»، وكانت المهمة ستحدد مصير القرار الجرىء للكاتب سعد الدين وهبة، رئيس مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، بعرض الفيلم فى افتتاح المهرجان، 2 ديسمبر 1991، وهو القرار الذى مهد لمعركة ضد الفيلم فجرها وقادها الكاتب الصحفى إبراهيم سعدة، رئيس مجلس إدارة وتحرير أخبار اليوم، وفى مواجهة آخرين له أصبحت: «من أكبر معارك الدفاع عن حرية التعبير فى السينما العربية فى العقد الأخير من القرن العشرين»، بتقدير الكاتب والناقد سمير فريد فى كتابه «تاريخ الرقابة على السينما فى مصر».
كانت دماء «العلى» صاحب شخصية «حنظلة» لا تزال ساخنة منذ أن سالت على أسفلت أحد شوارع لندن برصاص غادر، يوم 29 أغسطس 1987 وعمره خمسون عاما «مواليد 1937»، وأثار اغتياله ضجة، ففيما اتهم البعض إسرائيل، اتهم آخرون ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وقتئذ، لأن «العلى» تجاوز الخطوط بكاريكاتير يشير فيه إلى أن الكاتبة المصرية الدكتورة رشيدة مهران هى صاحبة الأمر والنهى فى المنظمة لقربها من «عرفات»، وفقا لكتاب «أكلة الذئب، السيرة الفنية للرسام ناجى العلى» تأليف «شاكر النابلسى».
اتخذ «وهبة» قراره يوم 6 سبتمبر 1991 بعرض الفيلم، أى قبل فعاليات المهرجان بثلاثة شهور تقريبا، وبدأت الأزمة قبل الافتتاح.. يؤكد «الطيب» أنها بدأت بوصول ياسر عرفات إلى مصر خصيصا لمقابلة الرئيس «مبارك»، وتحريضه ضد الفيلم بحجة أنه يسىء إلى شخصه، ويتهمه بالوقوف وراء جريمة اغتيال ناجى العلى.. يضيف: «يومها استدعى «مبارك» أسامة الباز، لسؤاله، وفى خطوة استباقية وجه سعد الدين وهبة الدعوة للباز لمشاهدة الفيلم فى عرض خاص، ويبت فى إمكانية عرضه من عدمه، ومع دقات التاسعة من مساء السبت 30 نوفمبر 1991، أى قبل يومين من افتتاح المهرجان، دخل «الباز» قاعة العرض، ومرت الدقائق ثقيلة كالدهر، قبل أن يقف معلنا موافقته من دون تحفظ على عرض الفيلم فى افتتاح المهرجان بقاعة المؤتمرات بمدينة نصر، وبحضور الفريق أول محمد فوزى «وزير الحربية 1967 إلى 1971»، والأستاذ سامى شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبدالناصر، جنبا إلى جنب مع فاروق حسنى وزير الثقافة، وعبدالمنعم عمارة رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة، وشهد حفل الافتتاح منح نجلى الموسيقار محمد عبدالوهاب، والكاتب الكبير دكتور يوسف إدريس درع تكريم المهرجان، كما صافح سعد الدين وهبة الفنانة الكبيرة فاتن حمامة وأهداها درع المهرجان.
يذكر الطيب: «لم ينته عرض «ناجى العلى» بإلقاء «حنظلة» وأطفال المقاومة الحجارة على العدو الإسرائيلى فحسب، بل انهالت الحجارة على كل من شارك فى الفيلم، وبدأت التداعيات مع المؤتمر الصحفى، الذى أقيم صبيحة اليوم التالى، بفندق ماريوت، وأداره الناقدان على أبو شادى وفوزى سليمان، وشهد احتجاج الصحفى اللبنانى محمد حجازى على ما أسماه «نشر غسيلنا العربى القذر»، وسجل استياءه كون الفيلم يشير بطرف خفى إلى تورط أياد عربية فى قتل «ناجى العلى».
لم يكن ترحيب «الباز» بالفيلم كافيا لحمايته داخل مصر، ففى 7 ديسمبر 1991، أطلق «سعدة» رصاصاته الأولى بمقارنة خبيثة فى مقال قصير بأخبار اليوم بعنوان: «رخا أم ناجى العلى؟» يقول فيه: «المهرجان مصرى ويحمل اسم القاهرة، ولكن فيلم الافتتاح غير مصرى، وإذا كان الهدف من هذا الفيلم تقديم سيرة فنان كاريكاتير، فكان لا بد من أن يكون «رخا» وليس ناجى العلى الذى لا يعرفه أحد فى مصر».. يضيف: «أوجه الدعوة إلى نور الشريف كى يختار من بين مئات الأبطال المصريين على مدى العهود، اللهم إلا إذا كان نور الشريف يتخوف من أن منتجى الأفلام المصرية لن يغدقوا عليه كما أغدق منتجو الأفلام غير المصرية».
استمر الاستقطاب حول الفيلم أسابيع، وفيما حشدت «أخبار اليوم» ضده، وقفت صحف المعارضة ومجلة روزاليوسف وأقلام نقدية كثيرة فى صفه، لكن وحسب الطيب: «مات نور الشريف لكن إلى اللحظات الأخيرة قبل أن يلفظ أنفاسه ظل الجرح الذى خلفته معركة «ناجى العلى» غائرا فى قلبه، ولم يندمل فى ذاكرته، وأكثر ما أحزنه، وأوجعه، أن بعض الرفاق شاركوا فى «المذبحة»، كما وصفها، ولم يترددوا فى تخوينه، واتهامه بأنه باع بلده نظير ثلاثة ملايين من الدولارات»!