فاجأ الرئيس السادات العالم يوم 9 نوفمبر 1977، بأنه مستعد للذهاب إلى إسرائيل.. وقال فى خطابه أمام مجلس الشعب: «مستعد أن أذهب إلى آخر هذا العالم، وستندهش إسرائيل عندما تسمعنى أقول الآن أمامكم أننى مستعد أن أذهب إلى بيتهم إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم»، وفى 19 نوفمبر 1977 وصلت طائرته إلى مطار «بن جوريون»، واستقبل استقبالا إسرائيليا رسميا حافلا، بينما أصاب هذا الحدث البعض بالصاعقة.
كان وزير الخارجية إسماعيل فهمى، ممن عارضوا هذه الزيارة واستقال قبل سفر السادات، كما استقال محمد رياض وزير الخارجية، الذى خلفه، بعد ست دقائق فقط من إعلان اختياره للمنصب، كما قرر الدكتور مراد غالب سفير مصر فى يوغوسلافيا الاستقالة، ويكشف أسرارها فى مذكراته «مع عبدالناصر والسادات».
كان مراد غالب نجما لامعا فى سماء السياسة والدبلوماسية المصرية، بعد ثورة 23 يوليو 1952، حيث عمل مستشارا للرئيس عبدالناصر، ثم أصبح سفيرا لمصر فى الكونغو وشاهدا على قصة اغتيال رئيس وزرائها المنتخب وزعيم الحركة الوطنية فيها «باتريس لومومبا» يوم 17 يناير 1961، ثم عينه عبدالناصر سفيرا فى موسكو لسنوات طويلة بلغ فيها التعاون المصرى السوفيتى ذروته، وارتبط بعلاقات شخصية وثيقة مع الزعماء السوفييت، وبعد رحيل عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970 عينه الرئيس السادات وزير دولة للشؤون الخارجية، ووزيرا للإعلام، ثم وزيرا للوحدة مع ليبيا، وأخيرا سفيرا فى يوغوسلافيا.
يعترف «غالب» فى مذكراته أنه صعق حين استمع إلى خبر استعداد الرئيس السادات الذهاب إلى إسرائيل.. يكشف: «جهزت استقالتى من منصبى، لكنى لم أعلنها فى أول يوم، وانتظرت يومين قبل إرسالها إلى القاهرة، لأننى تصورت أن السادات أقدم بهذه الخطوة على عمل سيصيب العالم كله بهزة شديدة، ويصيب منزلته هو أيضا بهزة مماثلة، وأنه لكى يفعل هذا فلا بد أنه كان قد توصل مسبقا إلى اتفاق مع إسرائيل لإزالة آثار العدوان الذى وقع فى عام 1967، وأن ذهابه هو لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق».
ويؤكد أنه وجد أن هذا كله محض خيال، واتضح أننا سنبدأ المحادثات بعد هذه الزيارة، ودعا السادات إلى مؤتمر فى «مينا هاوس» بمصر، ورفعت أعلام فلسطين والأردن وسوريا.. يضيف: «أدركت ما سيحدث فى مفاوضات تبدأ مع إسرائيل المشهورة بالتعنت والمناورة وعدم الجدية فى السلام، وهنا أرسلت الاستقالة ببرقية مفتوحة وشرحت فيها كيف أننى لم أعد أستطيع أن أمثله «السادات» سفيرا».
بعث «غالب» استقالته من العاصمة اليوغوسلافية «بلجراد» يوم 1 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1977، ونشرت الأهرام خبرها فى مساحة صغيرة بالصفحة الأولى، 2 ديسمبر 1977، واللافت أن خبر الاستقالة جاء فى سطرين ونصف السطر فقط، ثم أعقبته «الأهرام» بتعليق فى 28 سطرا كلها هجوم على الرجل، وكأنه لم يكن له ميزة واحدة طوال عمله فى السنوات السابقة.. قالت «الأهرام»: «إن استقالة الدكتور مراد غالب، أمر طبيعى يتفق تماما مع اتجاهاته وميوله السياسية الموالية للسوفييت، حيث أمضى هناك 14 عاما متصلة، بدأت منذ أن كان سكرتيرا أول بالخارجية، واستمرت حتى أصبح سفيرا هناك، وعندما كان مراد غالب وزيرا للخارجية، وأصدر الرئيس السادات قراره بطرد الخبراء السوفييت «يوليو 1972» انهار الرجل ولم يستطع أداء عمله، ورأت القيادة السياسية يومها إعفاءه من منصبه بالرغم مما أشيع بأنه قدم استقالته».
تضيف: «غير أنه عين بعد ذلك وزيرا للإعلام، حيث وضحت خلال فترة توليه هذا المنصب «6 شهور» اتجاهاته الشيوعية، واحتضانه لكل عناصر اليسار الماركسى فى الإعلام، وهكذا ينضم الدكتور مراد غالب إلى السائرين فى ركب الاتحاد السوفيتى، والذين يتلقون تعليماتهم من موسكو، والذين يضعون أوامر موسكو فوق أى اعتبار وطنى أو مصلحة قومية».
هكذا وجهت «الأهرام» قذائفها إلى مراد غالب، وكان المناخ السياسى يشهد هجوما شديدا من السادات ووسائل الإعلام ضد الاتحاد السوفيتى والدول العربية الرافضة لزيارة القدس، وأبرزها ليبيا برئاسة العقيد معمر القذافى..يذكر «غالب»: «كان هناك من يظن أننى سألجأ إلى ليبيا أو أى دولة عربية أخرى، وملأوا مصر بالشائعات بهذا المعنى، لكننى صرحت بأننى سأعود إلى القاهرة من بلجراد، فأمر السادات بالقبض على بمجرد نزولى من الطائرة، لكن ممدوح سالم «رئيس الوزراء» أقنعه بأن ذلك سيجعل منى بطلا، وأن الأفضل أن تدعه يأتى إلى مصر، ويسدل الستار على من يسمى مراد غالب».. يضيف: «عدت إلى القاهرة ولم يقبض على، وتم إسدال الستار فعلا على».