كانت الساعة العاشرة والنصف صباح 22 ديسمبر 1956 حين سلمت القوات الفرنسية مدينة «بورفؤاد» إلى قوات الطوارئ الدولية، تنفيذا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 5 نوفمبر 1956 بوقف إطلاق النار وانسحاب قوات العدوان الثلاثى «بريطانيا، فرنسا، إسرائيل» على مصر.
حدد الإنجليز حظر التجول فى الشريط الضيق للموجودين فيه بالشمال الشرقى للمدينة بشارع 23 يوليو – من تمثال ديلسيبس حتى شارع الملكة فريدة، وذلك لمدة 24 ساعة حتى يتمكنوا من الانسحاب، حسبما يذكر «ضياء الدين حسن القاضى» فى كتابه «الأطلس التاريخى لبطولات شعب بورسعيد عام 1956».. مضيفا، أن احدى القطع البحرية كانت فى انتظار القوات المنسحبة، وكانت تفتح مؤخراتها لدخول هذه القوات بداخلها، وكان فى حماية آخر تلك القوات المنسحبة ثلاث بوارج حربية أمام شاطئ البحر المتوسط، و300 جندى من جنود القناصة فوق أسطح المنازل المطلة على المنطقة الخاصة بالانسحاب خوفا من بطش الفدائيين، كما انتشرت القوات الدولية وراء الأسلاك.
يؤكد محمود رياض وزير خارجية مصر من 1964 إلى 1972، وأمين عام جامعة الدول العربية من 1972 إلى 1979 فى الجزء الثانى من مذكراته «الأمن العربى بين الإنجاز والفشل»: «بعد صدور قرار الأمم المتحدة بانسحاب قوات العدوان، رأى عبدالناصر القيام بالضغط على القوات البريطانية المعتدية لتعجل بانسحابها من بورسعيد، وذلك عن طريق مضاعفة نشاط الفدائيين خلال شهر ديسمبر، وتصاعد بالفعل نشاط الفدائيين، وكانوا يعدون الكمائن ويهاجمون الدوريات البريطانية والفرنسية».
فى 23 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1956، عادت جميع القطع البحرية الإنجليزية إلى قاعدتها فى قبرص ومالطة، وقطع الأسطول الفرنسى إلى قاعدتها فى مارسيليا وتولوز، وفقا للقاضى، مضيفا: «بالتحديد غادرت آخر سفينة بريطانية فى الساعة الخامسة إلا الربع حاملة جنود فرقة «يورك شير»، وفى صباح هذا اليوم وفى الساعة التاسعة دخلت المدينة سيارات لاسلكى من سيارات الجيش بقيادة مهندس وأعقبتها سيارات الجيش المصرى، وأصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرارا رقم 345 لعام 1956 بإنشاء وزارة شؤون بورسعيد برئاسة عبداللطيف البغدادى، وتكونت هيئة لتعمير المدينة».
كان الدكتور يحيى الشاعر، أحد القيادات الشبابية المدنية للمقاومة الفدائية السرية أثناء العدوان، وله كتابه الوثائقى «الوجه الآخر للميدالية، الأسرار الكاملة لحرب المقاومة السرية فى بورسعيد1956»، ويكشف فى شهادة له ضمن كتاب «الأطلس التاريخى» عن دور زميله الشاب مصطفى عبدالوهاب، مؤكدا أنه أرسل إشارة إلى قيادة المقاومة السرية عبر جهاز اللاسلكى الصغير الموجود بحوزته تقول: «خرج آخر جندى من الأعداء عن أرض بورسعيد»... كان البلاغ فى الساعة السابعة وخمسين دقيقة مساء 22 ديسمبر 1956، فأبلغت «قيادة المقاومة» الإشارة إلى القاهرة فورا قبل نشرة أخبار الساعة الثامنة مساء، إلا أن القيادة أذاعتها فى اليوم التالى 23 ديسمبر.
كان «عبدالوهاب» بوصف «الشاعر» : «وطنى كبير جدا، خريج مدرسة بورسعيد الثانوية، ووالده كان قبطانا بشركة قناة السويس ووالدته إيطالية، وكانت ملامحه أجنبية بعيونه الزرقاء وشعره الأصفر، وبعد ضغط المقاومة بعملياتها الفدائية بدأ الإنجليز فى الانسحاب من المدينة تجاه الميناء فى شريط ضيق محاط بالأسلاك الشائكة، وكان الانتقال من وإلى هذا المكان يتم بواسطة أختام على المعصم ، وصدرت أوامر من القاهرة إلى قيادة المقاومة فى بورسعيد برصد تحركات قوات الأعداء، وهل هى جادة فى عزمها الجلاء عن المدينة؟.. وكم عدد القوات التى غادرت الميناء وكم باقى على أرض المدينة؟.
قادت هذه المطالب مصطفى عبدالوهاب إلى دوره فى المقاومة بشكله ووسامته التى تعطى انطباعا بأنه إنجليزى، حيث دربه الرائد سمير غانم، على إمكانية إعطاء اشارات المورس بجهاز لاسلكى صغير ينقل المعلومات عن تحرك القوات البريطانية وتجمعها، وبدأ مهمته من أول ديسمبر 1956.. يضيف «الشاعر» أن «عبدالوهاب» كان يسكن فى منزل «روزا عون» فى شارع 23 يوليو عند أكبر نقطة للأختام بالدور الخامس القريب من الميناء، إلا أن نقطة المراقبة التى كان يزاول منها مهمته المكلف بها كانت تقع أعلى المنازل بالقرب من القنصلية الأمريكية المطلة على الميناء.. يؤكد: «كانت بلاغاته فى غاية من الأهمية لأنها كانت ترصد جميع التحركات البريطانية بالدقيقة والساعة حتى آخر خروج جندى بريطانى».
يذكر الشاعر: «بعد خروج العدوان الثلاثى من بورسعيد، أصدر عبدالناصر قراره بإلحاق مجموعة الشباب التى قادت العمل الفدائى السرى فى بورسعيد بكليتى الحربية والبحرية ومنهم، محمد حمد الله، يحيى الشاعر، السيد الكومى، مصطفى عبدالوهاب، محمود عبد الغفور ..وبعد سنوات هاجر مصطفى، ويحيى، ومحمود إلى ألمانيا، ثم غادرها مصطفى إلى أمريكا وعاش فيها مهندسا ناجحا كبيرا.