رحلت قبل ساعات المستشارة الكبيرة تهانى الجبالى، أول قاضية مصرية والمرأة التى غلبت الإخوان بعد رحلة حياة كانت خلالها رمزًا من رموز المرأة المصرية التى استطاعت أن تصل إلى ما لم يصل إليه غيرها وأن تقاوم كل ما تراه ظلمًا مهما كلفهتها مواقفها من مخاطر وهجوم، إنسانة وسيدة قوية متصالحة مع نفسها ومع أفكارها ولا تخش فى الحق لومة لائم.
تربت تهانى الجبالى فى بيئة وأسرة ساعدت على تكوينها الفكرى والإنسانى وعلى قوة شخصيتها وما اتبعته طوال حياتها من مبادئ وسار عليه من نهج فى كل القضايا والحروب التى خاضتها وتحدثت عنها فى العديد من الحوارات واللقاءات التى نادرًا أن تتحدث خلالها عن الجوانب الشخصية والإنسانية فى حياتها وعن طفولتها ونشأتها.
ولكن فى حوار نادر مع المستشارة الراحلة تهانى الجبالى تحدثنا معها عن هذه الجوانب فكشفت الكثير من أسرار طفولتها ونشأتها التى أثرت فى تكوينها وعن عائلتها ومواقفها الدينية ورأيها فى الحجاب.
وأغمضت المستشارة تهانى الجبالى عينيها وعادت بالذاكرة سنوات طويلة، لترى صورة هذه الطفلة، التى وقفت مع أشقائها وأطفال أسرتها يقدمون الطعام ويغسلون الأطباق ويخدمون الزوار فى الخيمة، التى يقيمها والدها الطبيب، بالصليب الأحمر، لإطعام زوار السيد البدوى بطنطا، وتذكرت خلال الحوار عندما وقفت لتتحدث مع الشيخ سيد النقشبندى، الذى كان يحيى هذه الليالى، وكان هو والمقرئ الشيخ مصطفى إسماعيل أصدقاء مقربين لوالدها وعائلتها.
كانت تهانى الطفلة الصغيرة تسأل المشايخ، ولا تكف عن النقاش، حتى ضحك النقشبندى، الذى لفت نظره ذكاؤها فقرر أن يرقيها كلما رآها.
كما تذكرت المستشارة الراحلة خلال الحوار كيف كان الأنبا يؤانس مطران الغربية يشارك فى هذه الجلسات والليالى الرمضانية العامرة بالإنشاد الدينى وقراءة القرآن.
لم تدرك هذه الطفلة حينها أن المستقبل يحمل لها الكثير، وأنها ستكون أول امرأة تجلس على منصة القضاء فى مصر، وستخوض معارك كثيرة تجعلها جزءا مهما من تاريخ مصر.
فى هذه الأجواء نشأت المستشارة تهانى الجبالى، أول قاضية فى تاريخ مصر، التى أثارت جدلا واسعا عندما تولت هذا المنصب بصدور قرار جمهورى بتعيينها نائبا لرئيس المحكمة الدستورية العليا كأول قاضية مصرية عام 2003، كما أثارت جدلاً أوسع عندما أجبرت على ترك المنصب فى عهد الإخوان، بنص دستورى قيل إنه وضع خصيصًا لاستبعادها بسبب عدائها الواضح للتيارات الإسلامية، بل نظم الإخوان مظاهرات حاشدة خصيصًا للهجوم على المستشارة.
تاريخ حافل وتجربة إنسانية ثرية لابنة الأسرة الإقطاعية، التى طبق عليها الإصلاح الزراعى، وانتمى أغلب أفراد عائلة والدها لحزب الوفد، بينما نشأت هى على الأفكار الناصرية واعتنقتها.
تنتسب تهانى الجبالى إلى عائلة الجبالى من الأشراف، وجدها الأكبر الشيخ إبراهيم الجبالى، أحد كبار علماء الأزهر، الذى كان له دور بارز فى الثلاثينيات فى اعتناق بعض الطوائف الهندية للإسلام، بعد سفره للهند بتكليف من الشيخ المراغى، شيخ الأزهر وقتها.
درست ونشأت فى مدارس الأقباط، ولا تنسى أن والدتها التى كانت من الرعيل الأول، الذى تخرج فى مدرسة المعلمات كانت تصوم مع جاراتها الأقباط صيام العذرا، بينما كانت الجارات المسيحيات يصمن مع جارتهن المسلمة فى رمضان.
شعرت المستشارة بأن جزءًا من تاريخها وذكرياتها طالته يد الشر عندما وقع تفجير كنيسة مارجرجس القريبة من مقر نشأتها فى منزل العائلة بطنطا، وقالت: أنا شفتها وهى بتتبنى وحضرت فيها أفراح أصحابى وجيرانى وعشت أجواء الاحتفالات فيها بعيد السعف، وتحدثت المستشارة عن والدتها، التى كانت تعمل مدرسة تجمع الطلاب المسيحيين والمسلمين فى حصة دين واحدة وتتحدث فيها عن القيم المشتركة والأخلاق والضمير الإنسانى.
ونشأت تهانى الجبالى فى واقع يسوده التجانس الوطنى، وكانت السماحة الدينية ممارسة واقعية وليست شعارات، هكذا وصفت أول قاضية الأجواء، التى نشأت فيها.
أجرت المستشارة العديد من الدراسات والأبحاث عن حقوق المرأة والشريعة الإسلامية، وأكدت خلال الحوار أنها تلتزم بالزى الإسلامى وترتدى الحجاب رغم أنها لا تضع غطاء على رأسها.
وقالت عن ذلك: "الحجاب فى الإسلام حجاب مستور وليس حجابا منظورا، ويعنى الاحتشام، ويتناسب مع العصر، دون ترخص أو عرى، ويصدقه السلوك، الذى يجبر من يتعامل مع المرأة على احترامها، ولكن ليس هناك زى محدد"، وأضافت: "أنا بهذا المفهوم محجبة وكنت أعمل فى مجتمع ذكورى وأحظى باحترام كل من يتعاملون معى، والحجاب ليس قطعة قماش توضع على الرأس".
وكانت الجبالى تحرص على أن تجمع عائلتها وأشقاءها وأبناءهم على الإفطار فى شهر رمضان، كما تحرص على زيارة منزل العائلة فى طنطا.
وأكدت أول قاضية لـ"انفراد" أنها رغم مناصبها فإنها فلاحة تجيد الطهى وكل الأعمال المنزلية وتنفى عن المرأة الناجحة فى عملها تهمة أنها تكون دائمًا مقصرة فى بيتها.
كانت تهانى الجبالى أول محامية منتخبة بمجلس نقابة المحامين وأول سيدة مصرية وعربية يتم انتخابها كأول عضوة فى المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، قبل أن تكون أول قاضية حصلت على المركز الأول بين السيدات الأكثر تأثيرا فى مصر لعام 2014 و2015.
وأكدت خلال حوارها لـ"انفراد" أنها لم تكن تحلم بأن تصبح أول قاضية، بل كانت تحلم بأن تصل المرأة المصرية لمنصة القضاء: "لم أتصور يوما أن أكون أنا أول قاضية فى مصر ولم أتقدم لهذا المنصب أو حتى أعرف أنى مرشحة له".
ظلت المستشارة تصر على استرداد حقها وخاضت معركة قضائية فى عهد الإخوان للطعن على النص الدستورى، الذى عزلها من منصبها، وقالت: «الإخوان ساومونى وعرضوا على اختيار أى منصب مقابل سكوتى».
وشددت على أنها خاضت هذه المعركة ليس لمصلحة شخصية ولكن دفاعا عن استقلال القضاء، وأن الثمن الذى دفعته بسبب معارضتها لحكم الإخوان تحتسبه فداء لمصر، قائلة: "خيرة الشباب قدموا أرواحهم فداء للوطن".
وتحدثت باقتضاب عن حياتها الزوجية وهى تقول: "كل ما أستطيع قوله إننى محظوظة بالرجال فى حياتى سواء الأب أو الزوج أو الأخوة أو الزملاء"، رحم الله المستشارة والقاضية تهانى الجبالى إحدى أقوى سيدات مصر وأسكنها فسيح جناته.