قطار ينطلق على قضيبين، لا يمكن بطبيعة الحال أن يصل إلى وجهته، أو يتحرَّك مترًا إلى الأمام، ما لم يكن القضيبان مُستويين ومتوازيين إلى آخر الطريق، التنمية كالقطار تمامًا، تحتاج إلى تغذية قدرات النمو وعلاج اختلالات السوق وإدارة الموارد وضبط الإنفاق، بالتزامن مع مراعاة الأبعاد الاجتماعية وتمكين الفئات الأقل قدرة على الجرى إلى جانب القطار السريع، ما يحدث فى مصر يشير إلى امتلاك حساسية قادرة على خلق الاتزان وصيانته، وراغبة فى ذلك وساعية إليه بيقين وإخلاص، دون ضغط على عجلة النمو، أو جور على مستحقى المساندة.
آخر تلك الإشارات، قرارات الرئيس عبدالفتاح السيسى، الثلاثاء، بما تضمنته من حزمة مساندة واسعة تتصل مباشرة بأوضاع ملايين العاملين والأسر، وتفتح مجالا فى الدولاب الإدارى يوفر وظائف ويسد ثغرات موروثة، فضلا عن تكاملها مع إجراءات سابقة تعزز فلسفة التوازن برؤيتها الاجتماعية، وترفع منسوب تمكين الفقراء والأولى بالرعاية. الرئيس وجه، أمس الأول الثلاثاء، برفع الحد الأدنى للأجور من 2400 إلى 2700 جنيه، وإقرار علاوتين وحافز إضافى للمخاطبين وغير المخاطبين بقانون الخدمة المدنية بتكلفة إجمالية 26 مليار جنيه، وتعيين 150 ألف معلم خلال خمس سنوات مع توجيه 3.1 مليار جنيه حافزا لتطوير المعلمين، و1.5 مليار جنيه أخرى لهيئات التدريس ومعاونيهم بالجامعات والمراكز والهيئات البحثية، وتمويل قانون مرتبات الأساتذة المتفرغين، وأخيرا ضم تخصصات طب الأسنان والتمريض والعلاج الطبيعى إلى قرار رفع مخصصات أطباء الامتياز.
تلك الحزمة الواسعة تغطى ملايين الأسر، تقديريا يتجاوز المستفيدون منها 5 ملايين موظف، و1.3 مليون معلم وأستاذ جامعة، ونحو 40 ألف ممرض وطبيب امتياز سنويا، يضاف إلى ذلك قرابة 11 مليون صاحب معاش شملتهم إجراءات سابقة بالزيادة السنوية ارتباطا بحد التضخم وفق القانون 148 لسنة 2019، ونحو 13 مليونا من العاملين بالقطاع الخاص، زادت أجورهم مطلع العام وقال المجلس القومى للأجور إنه سيفاوض الغرف والشركات لتنفيذ الزيادة الجديدة، و14 مليونا من مستفيدى برنامج «تكافل وكرامة»، الإجمالى تقريبا 45 مليونا، ومع معدل إعالة عمرية يقارب 62% يضاف 28 مليونا آخرون، ليصل المستفيدون إلى نحو 73 مليون مواطن تقريبا، ثلاثة أرباع الشعب يحظون بمساندة مهمة فى وقت حاسم، وربما ترتفع النسبة إذا أضفنا مخصصات المنح والدعم على الوقود والخدمات والسلع التموينية وغيرها.
طفرة قياسية فى الأجور
مسار نمو الدخل شهد طفرة خلال السنوات الأخيرة، قبل 2011 لم يكن الحد الأدنى يتجاوز 700 جنيه، وحتى مع المطالبة برفعه إلى 1200 جنيه والحصول على أحكام قضائية بذلك لم يطبق، ظلت الدولة تراوغ قبل أحداث يناير وبعدها وخلال سنة الإخوان السوداء، الأمر تغير بدرجة واضحة للغاية بدءا من العام 2014، وقتها جرى التثبيت رسميا عند مستوى 1200 جنيه، ليقفز بعدها بسنتين لـ1400، ثم 2000 فى 2019، و2400 فى 2021، و2700 أخيرا، القطاع الخاص ظل طويلا عند مستوى 700 جنيه، حتى قفز إلى 2400 جنيه بقرار واضح سرى رسميا مطلع العام الجارى، مع مساع لإقرار الحد الأدنى الجديد الذى وجه به الرئيس، نمو الدخل سجل 125% خلال سبع سنوات تقريبا، بمتوسط سنوى يقارب 18%، لا يبدو الأمر إيجابيا فقط فى معدلاته وأرقامه، وإنما الأهم أنه جاء بمبادرة من الدولة فى إطار رؤية اقتصادية وتنموية تعمل على هيكلة السوق ومكونات النمو، متسلحة بخطة تنموية تستند إلى العمران والطاقة والاستثمار والخدمات، ولا تغفل عن العدالة والرعاية الاجتماعية وتمكين المهمشين وإبقاء مسارات التحسن والترقى الاجتماعى مفتوحة وقادرة على استقبال الطالعين وتيسير عبورهم.
لم تتجاوز مخصَّصات الأجور الإجمالية فى موازنة 2014/ 2015 مستوى 207 مليارات جنيه، فى 2021 قفزت إلى 361 مليارا بنسبة نمو تتجاوز 74%، وتقفز بالموازنة الجديدة إلى 400 مليار جنيه بنمو قدره 93% عن 2015، ونحو 11% عن العام المالى الجارى، الأمر نفسه فيما يخص مخصصات الدعم والمزايا الاجتماعية، إذ لم تتجاوز 201 مليار جنيه قبل سبع سنوات، لترتفع إلى 323 مليارا بنمو يتجاوز 60%، إلى ذلك تستهدف الموازنة الجديدة الإبقاء على الفائض الأولى عند 1.5% من الناتج الإجمالى، وخفض نسبة دين أجهزة الموازنة العامة، وتقليص العجز الكلى لنحو 6.3%، ونجحت السياسات النقدية ولا تزال فى إبعاد سوق الصرف عن مناطق التوتر والاهتزازات الطارئة، وتحقيق مستهدفات التضخم، ويشهد النمو ثباتا متصلا وسط العاصفة، وبدايات لاستعادة مسار الصعود المتزن، المشهد بجناحيه يؤكد وصول الدولة إلى مستوى متقدم من الاستقرار، يضمن لها ألا يرتبك السوق أو تتعطل التنمية أو يسقط بعض ركاب القطار السريع.
حصار الفقر وتحسين المعيشة
سجلت نسبة الفقر نحو 29% بحسب تقرير للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى 2019، منذ ذلك التاريخ زادت الرواتب مرتين، وعززت الدولة برنامج «تكافل وكرامة» بمخصصات إضافية وآليات استهداف أكثر انضباطا وفاعلية، وأطلقت مسارات نوعية تخفف العبء عن الأسر، منها مثالا التغذية المدرسية، وإحلال العشوائيات، ومبادرة «حياة كريمة» لاستهداف أكثر من 56 مليونا فى القرى بنحو 700 مليار جنيه، وبدء تنفيذ منظومة التأمين الصحى الشامل، وإعادة توجيه مخصصات الدعم السلعى والخدمى على نحو أكفأ وأقدر فى الوصول للمستحقين الفعليين. تحسين الدخول مع تحمل الدولة مسؤولية تأهيل السكن والبنية التحتية وإتاحة خدمات جيدة زهيدة التكلفة، يعيد رسم خريطة الإنفاق والاستهلاك داخل الأسر، ويسمح لها بتوجيه مواردها على نحو أكثر فاعلية من أجل إشباع احتياجاتها الأساسية بكفاءة وجودة، لن يكون الفرد مشغولا بأعباء أكبر للسكن والانتقال والصحة والتعليم المكلف، بقدر انشغاله بتوجيه موارده لتحسين نوعية الحياة التى يعيشها ويقدمها لأسرته وأطفاله. هذا التحوّل معناه تنشيط الإنفاق وتغيير خريطة الطلب، مع ما يتبع ذلك من تحفيز الإنتاج واستقطاب استثمارات أكبر فى قطاعات بعينها ورفع معدلات دوران السوق وقدرتها على توليد الفرص.
بحسب تقرير لجهاز الإحصاء، يتجاوز متوسط دخل الفرد 20 ألف جنيه، تساوى تلك القيمة نحو 1300 دولار تقريبا بسعر الصرف، لكنها تقفز وفق مؤشر تعادل القوة الشرائية إلى أكثر من 2800 دولار، ينظر إلى تعادل قوة الشراء باعتبارها تعبيرا أفضل عن أداء العملات الفعلى والمؤثر اقتصاديا ومعيشيا، من حيث كمية السلع والخدمات التى يمكن أن تحصل عليها مقابل كل وحدة عملة مقارنة بنظيرتها، لتقريب تلك النقطة يمكن النظر فى مؤشر طريف أطلقته «إيكونوميست» العالمية بالعام 1986 باسم «مؤشر بيج ماك»، ويقيس سعر الصرف الحقيقى تقريبيا بالمقارنة بين سعر شطيرة «بيج ماك» حول العالم، وفق هذا المؤشر فإن الجنيه مقوم بأقل من قيمته الحقيقية بنحو 56%، والدولار لا يساوى أكثر من 7.5 جنيه فقط، باستبعاد تأثير الواردات؛ نظرا لأن الأساسى منها تدعمه الدولة فى الغالب، وغير ذلك قد لا يشكل فارقا ملموسا فى مسألة الفقر، فى تلك المسألة فإن طفرات السنوات الأخيرة تنتشل ملايين المصريين من دوائر الفقر، بالنظر إلى المؤشرات السالفة أو حتى المحدثة عند 1.9 دولار أو 3.2 دولار، وبالسعر الاسمى أو بتعادل قوة الشراء.
فاتورة الإصلاح ومنافعه
كان برنامج الإصلاح الاقتصادى مرهقا، هكذا قال الرئيس والحكومة غير مرة، وأكدوا أنه لم يكن لينجح لولا تفهم الناس واحتمالهم، لكن رغم الإرهاق كان المسار ضروريا لضبط الأوضاع، وعلاج اختلالات عميقة أورثتها عقود الإهمال وعدم المبالاة والإدارة بالصدفة والحظ، الآن، بعد خمس سنوات من بدء الإصلاح تبدو مؤشرات الاقتصاد الكلية أكثر استقرارا وسلامة، ارتبك العالم تحت ضغط الجائحة واهتزت أسواقه وسجل أغلبها انكماشا واضحا، تفاقم فى بعض الدول وصولا إلى 12%، وفقدت أسواق بارزة كثيرا من قدراتها، وصلت فى بلد قريب إلى أكثر من نصف قيمة عملته، كانت مصر واحدة من دول قليلة للغاية سجلت نموا إيجابيا وسط العاصفة، وحافظت على عملتها وسوق صرفها دون شروخ أو تشققات، ومنذ الربع الماضى سلكت مسار التعافى وحسنت مؤشرات النمو فى اتجاه صاعد بتوازن واستقرار، تحملنا الدواء المر لنتجاوز ذروة المرض، وبات بالإمكان الخروج إلى متسع النقاهة واستشراف الصحة الكاملة، زيادة الأجور وإطلاق حوافز ومزايا إضافية وتعيين آلاف المعلمين ومواصلة «حياة كريمة»، بالتزامن مع مشروعات قومية عملاقة فى البنية التحتية والعمران وتأهيل القطاعات الإنتاجية وتوطين الصناعة وترقية قطاع الطاقة على كل المستويات، إشارة واضحة إلى تجاوز الأعراض، واستعادة العافية، والقدرة على مناورة التحديات الداخلية والضغوط الخارجية، بأقل احتمال من المخاطرة وأعلى درجة من الفائدة.
خلال الأسبوعين الأولين من 2022 جذب السوق قرابة مليار دولار من الاستثمارات المالية فى أذون الخزانة والسندات طويلة الأجل، بحسب تصريح لمصدر بالبنك المركزى نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط الثلاثاء الماضى، لم يعد السوق قادرا على الحياة بإمكاناته الذاتية فقط، وإنما زادت جاذبيته وبات أكثر قدرة على استقطاب الاستثمارات، ما يُشير إلى وضعية أفضل على صعيد التنافسية، وثقة أكبر من المستثمرين ورؤوس الأموال والتدفقات الساخنة، المعنى أن مستثمرى الأوراق المالية يستشعرون قدرا من الثبات والاستقرار والاستدامة، ولا يخافون من المفاجآت أو التقلبات الطارئة، ويرون العمل فى السوق المصرى أكثر مأمونية وجدوى من البقاء بالخارج، الأثر المعنوى وراء ذلك بالغ الأهمية، لكن الأثر المادى ينعكس فى صورة موارد إضافية من النقد الأجنبى، وفرص أوسع للاستثمار والإنتاج والتوظيف، وتوازن أعمق بين العرض والطلب، من دون ضغوط معوقة للحساب الجارى وميزانى التجارة والمدفوعات.
سوق مستقر ودولة واثقة
نظريا ربما يتسبب رفع الأجور فى ضغوط تضخمية، بالنظر إلى ما يترتب على ذلك من زيادة السيولة ورفع الطلب على السلع والخدمات، فضلا عن الضغط على العرض بارتفاع تكلفة الإنتاج ممثلة فى أعباء العمالة، عمليا عبرت مصر تلك المحطة نحو ثلاث أو أربع مرات منذ 2014 حتى الآن، بعضها كان فى أوقات استثنائية وسط أزمات نقدية وعجز حاد وتشوه مقلق فى سوق الصرف ومستويات التضخم، الدولة باتخاذها هذا المسار تثق تماما فى قدرتها على إبقاء التوازن عند حدود مطمئنة، لا سيما أن التضخم دون المستهدف، والمعروض ينمو بوتيرة مستقرة، وكلفة الائتمان لا تعطل الاستثمار، ونستند إلى احتياطى قياسى ومستويات تصدير جيدة للغاية، بشكل لا يرشح اصطدامنا بأية عقبات فى تدبير احتياجات السوق من النقد والسلع، هنا ملمح إيجابى للغاية، ربما يتجاوز وضعية السوق وصورتها الذهنية خارجيا وثقة الشركاء والمستثمرين فيها، لأنه يشير إلى رؤية داخلية مستقرة ومتكاملة، وإلى ثقة السوق فى نفسها إلى حد اتخاذ إجراءات بالغة الشجاعة فى ظرف استثنائى إقليميا وعالميا، تلك الثقة جرى اختبارها سابقا وأكدت نفسها فى منعطفات أشد حدة، بما يؤكد احترافية المنظومة ويعظم اطمئنان المشتبكين معها من الداخل والخارج.
كل قرارات زيادة الأجور والحوافز جاءت بمبادرات من الدولة نفسها، وقرارات رئاسية استجابت لاحتياجات الناس، وتأسست على رؤية تنموية وتدرج محسوب فى الإجراءات، يشبه الأمر وصفة وطنية تحاول النفاذ إلى غاياتها جميعا بكفاءة وانتظام رغم محدودية الموارد، فتدفع عجلة التنمية إلى الأمام بالمشروعات النوعية والبرامج المخططة وفق احتياجات التمدد الأفقى والرأسى، ثم توجّه جانبا من الموارد أو منافع التنمية لتدفع المجتمع بكامله فى اتجاه صاعد، كنا قديمًا نتحرك بخطوات بطيئة وعشوائية، الآن نتحرك وفق منظومة محكمة، وبسرعة وكفاءة، وعلى كل المسارات معا، زادت رقعة المعمور، تضاعفت المدن الجديدة، تلاشت العشوائيات والمناطق غير الآمنة، توسّعت البنية التحتية وأعيد تأهيل شبكات الطرق والمرافق وتعزيزها بعدة أمثال قدرتها السابقة، وإلى كل ذلك ارتفعت مخصصات الرعاية الاجتماعية، وتضاعفت الرواتب، وجرى توجيه الدعم السلعى على نحو أكفأ، وابتكار دعم نقدى نوعى يرتبط بمستهدفات معيشية وتنموية حقيقية، مع تحسن ملحوظ ومتنام فى الصحة والتعليم، وتطور فى أنشطة الاقتصاد التقليدية، ودخول أنشطة جديدة وإرساء ركائز مُستحدثة للعمل والإنتاج، حالة عامة وعارمة من النشاط على كل المستويات، تنمو فيها الدولة دفعة واحدة بكل مكوناتها وأجنحتها ومواطنيها، نموا شاملا ومرئيا ومؤثرا، كأن عملاقا نائما يستيقظ من سُباته ويهب من رقاده كما تهبّ العاصفة.