أصدر عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» فى النصف الثانى من عام 1938، فأثار ردود فعل مختلفة، وتعرض لانتقادات ممن رأوه يحمل دعوة تغريبية لأنه يطرح سؤالًا: «أمصر من الشرق أم من الغرب»، ولا يقصد فى ذلك الجغرافيا، وإنما «الشرق الثقافى» و«الغرب الثقافى»، وينتهى إلى القول: «إن العقل المصرى تأثر منذ عصوره الأولى بالبحر الأبيض المتوسط».. و«العقل المصرى والعقل اليونانى تأثر كل منهما بالآخر»، و«أنه لا فرق جوهرى بين العقل الأوروبى والعقل المصرى»، وقوله: «إننا فى هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوروبا اتصالًا يزداد قوة بعد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءًا منها لفظًا ومعنى وحقيقة وشكلًا».
بعد رؤيته النظرية حول هوية مصر، وامتدت فى الكتاب من صفحة 13 إلى صفحة 71، ينتقل طه حسين إلى طرح برنامج للنهوض يشمل تشخيصا لتأخرنا وأسبابه، ثم يقدم روشتة للتقدم، أساسها النهوض بالتعليم والثقافة، ويطرح فى هذا المجال شرحا وافيا لما يجب أن يكون عليه حال التعليم العام والأزهرى من مرحلته الابتدائية حتى الجامعة على مستوى المناهج والأبنية وحال المعلم، ورغم أنه قال كلامه فى هذا المجال عام 1938، إلا أن الكثير منه يصلح الآن.
كان المفكر القومى ساطع الحصرى، والدكاترة «حاصل على ثلاث دكتوراه» زكى مبارك، وسيد قطب ممن انتقدوا هذا الكتاب بعنف.. رآه «الحصرى» فى مقالات بدأها يوم 24 يوليو 1939 بمجلة الرسالة: «أنه مجموعة من أحاديث ومقالات قليلة التناسق كثيرة التداخل على جميع أقسامها آثار الارتجال والاستعجال، وتتخلل أقسامها أنواع شتى من الاستطرادات والاستدراكات»، أما زكى مبارك فكان أشد عنفا فى مقاله المنشور فى «الرسالة» يوم 23 يناير، مثل هذا اليوم، 1939، حيث يصف طه حسين بأنه «ليس أعلم العلماء، ولا أحكم الحكماء، وإنما هو رجل متحرك»، حسبما يذكر الباحث أنور الجندى فى كتابه «المساجلات والمعارك الأدبية فى مجال الفكر والتاريخ والحضارة».
جاء هجوم «مبارك» تواصلًا منه مع معارك سابقة وعنيفة شنها ضد طه حسين، بدأت من 11 نوفمبر 1932 إلى أول ديسمبر 1941 وفقًا لما يذكره «الجندى» فى كتابه «زكى مبارك»، موضحًا أن «مبارك» حين عاد من باريس بعد حصوله على الدكتوراه عن «النثر الفنى فى القرن الرابع» وطبعها فى مجلد ضخم شمل أكثر من 900 صفحة من القطع الكبيرة، سئل طه حسين عنها، فقال: «كتاب من الكتب، ألفه كاتب من الكُتاب»، ومن هنا انفتحت باب معارك زكى مبارك ضد طه حسين على مصراعيها، وحدثت فيها مضاعفات برفض طه حسين تجديد عقد مبارك أستاذا فى كلية الآداب عام 1934، فقال مبارك كلمته المعروفة: «لو جاع أولادى لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه»، فى حين وصفه طه حسين: «الرجل الذى لا يخطو إلى كلمة إلا احتال على رأس عفريت».
أما معركته ضد كتاب «مستقبل الثقافة» فقال فيها: «قلت «والكلام موجه إلى الدكتور طه»: إن عقلية مصر عقلية يونانية، وصرحت بأن الإسلام لم يغير تلك العقلية، ويعترف طه حسين أن مصر ظلت ثلاثة عشر قرنا مؤمنة بالعقيدة الإسلامية، والأمة التى تقضى ثلاثة عشر قرنا فى ظل دين واحد لا تستطيع أن تفر من سيطرة ذلك الدين.
يضيف: طه حسين يعترف بأن الإسلام رج الشرق رجة أقوى وأعنف من الرجة التى أثارتها الفلسفة اليونانية، وأن لمصر عقلية إسلامية، وهذه العقلية الإسلامية لها خصائص يدركها أصغر مدرس فى كلية الآداب، إن الديانات تفترق ثم تجتمع وهى فى روحها تحدث الناس بأسلوب واحد فى أوقات الضعف، ولكن هذا لا يمنع من أن هناك خصائص للعقلية الإسلامية والعقلية المسيحية، وهذه الخصائص تخفى على العوام ويدركها الخواص.
يسأله: كيف جاز عندك أن تتوهم أن الإسلام لم يصب العقلية المصرية بتغيير أوتبديل؟.. فى الحق أن المصريين فى حياتهم الإسلامية شغلوا أنفسهم بعلوم اليونان أكثر من عشرة قرون، ولكن وقد جلست على حصير الأزهر كما جلستُ، تعرف أن المصريين لم يتذوقوا تلك العلوم والأزهر لا يزال باقيا.. أنت تعرف أننا لم نفقه الفلسفة اليونانية إلا بعد أن ارتضينا رياضة عنيفة جدًا، والعلوم التى لا تُهضم إلا بعد جهد ومشقة لا تغير عقليات الشعوب وإن غُيرت الأفراد، والموجة الإسلامية التى طغت على مصر فنقلتها من لغة إلى لغة ومن دين إلى دين، والتى قضت بأن تنفرد مصر بحراسة العروبة والإسلام بعد سقوط بغداد، هذه الموجة العاتية لا يمكن أن يقال إنها لم تنقل مصر من العقلية اليونانية إلى العقلية الإسلامية، ولكن ما هى العقلية الإسلامية؟ إنها لون آخر غير العقلية اليونانية بلا جدال».