كانت الساعة الثانية عشرة و7 دقائق بتوقيت القاهرة فى 27 يناير، مثل هذا اليوم، حين جلس وزراء خارجية الحكومات الأربع لأطراف الحرب فى فيتنام، وهم: «وليام روجرز، وزير الخارجية الأمريكية، ووين دوى ترين، وزير خارجية فيتنام الشمالية، والسيدة وين تى بين، وزيرة خارجية الحكومة الثورية المؤقتة لفيتنام الجنوبية، وتران فان لام، وزير خارجية فيتنام الجنوبية»، إلى مائدة المفاوضات المستديرة فى قصر أوتيل ماجستيك فى باريس، وذلك للتوقيع على اتفاق إنهاء الحرب فى فيتنام، حسبما تذكر «الأهرام، 28 يناير 1970».
كان الاتفاق تتويجا لمفاوضات سابقة استمرت أربع سنوات لإنهاء الحرب العدوانية لأمريكا ضد فيتنام طوال 12 عاما، لم تكن فيها القوة العسكرية والاقتصادية متكافئة بين الطرفين، لكن المقاومة الفيتنامية العنيدة استطاعت أن تذل أمريكا بكل جبروتها وآلاتها العسكرية الأقوى فى التاريخ الإنسانى كله حتى أن الإدارة الأمريكية كانت تبحث عن مخرج يحفظ لها كرامتها وهيبتها، ووفقا للكاتب الصحفى سمير كرم فى تعليقه عن الحدث بـ«الأهرام»: «25 يناير 1973»: أهداف أمريكا من هذه الحرب لم تكن فى حالة ثبات أبدا، فى البدء كانت تريد أن ترث فرنسا فى الهند الصينية، ثم كانت لاحتواء الخطر الشيوعى، وانكمشت لتصبح احتواء الخطر الصينى، ثم ظلت تنكمش مع ضخامة حجم تدخلها لتصبح مجرد الحفاظ على الهيبة والمكانة الدولية، وفى آخر المطاف سار هدف أمريكا الخروج من الورطة بطريقة تحفظ الكرامة».
دخلت أمريكا هذه الورطة بعد أن أجبرت المقاومة الفيتنامية بقائدها العسكرى الجنرال «جياب» ورمزها السياسى والفكرى «هوشى منه» الاحتلال الفرنسى على مغادرة فيتنام بهزيمة الفرنسيين فى مايو 1954، وفى يوليو 1954 تم التوقيع فى جنيف على انتهاء الحرب وتقسيم فيتنام إلى شطرين، شمالية وعاصمتها «هانوى» يقودها الحزب الشيوعى الذى قاد معارك التحرير، وجنوبية عاصمتها «سايجون» تحتمى بأمريكا، وفى فبراير 1959 أسس الثوار الجنوبيين» الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام»، وفى 10 ديسمبر تأسست «جبهة التحرير الوطنى» لقيادة المقاومة ضد أمريكا والحكومة العميلة لها فى «سايجون»، وأعلن الحزب الشيوعى الحاكم لفيتنام الشمالية مساندة هذه الجبهة وإمدادها بالسلاح، ما زاد من تصاعد التدخل الأمريكى، فزادت قواته من 82 ألف مقاتل إلى 100 ألف فى عام 1965، و100 ألف أخرى فى عام 1966.
كانت القوة الأمريكية بأحدث أسلحتها الفتاكة يقابلها قوة فيتنامية لها خصوصيتها فى المقاومة التى يقودها عسكريا الجنرال «جياب» وعنه تقول صحيفة «صنداى تايمز»، فى دراسة لها عنه نشرتها «الأهرام» بالاتفاق معها يوم 26 يناير، 1973 وعرضها وقدمها سمير كرم: «من هو القائد العسكرى العظيم؟ إنه ليس بالضرورة الذى قاد ملايين الجنود، ولكن الذى أثبتت عبقريته من خلال الوسائل المتاحة له، وبهذا المعيار يعتبر كثير من القادة العسكريين «جياب المولود عام 1910 واحدا من أعظم جنرالات القرن العشرين»..
تضيف الدراسة: «قاد «جياب الحرب الشعبية، وهى الحرب الطويلة التى يشترك فيها الشعب كله وليس العسكريون وحدهم، استطاع هزيمة الفرنسيين، وبعدهم هزيمة الأمريكيين الذى نزلوا بقواتهم عام 1965 فى فيتنام الجنوبية ليرثوا الاحتلال الفرنسى، ومع الأمريكيين عبأ كل السكان المدنيين للعمل مع العسكريين ليجعل البلد كله معسكرا ضخما حصينا، أو حسب تعبيره «رأس رمح مستمر وواسع النطاق»، وكان يؤمن بأن «الحرب ينبغى أت تستمر إلى النقطة التى يمكن عندها جلب العدو إلى مائدة المفاوضات وإلحاق الهزيمة به»، ولعل ذلك هو ما دفع هنرى كيسنجر مستشار الأمن القومى الأمريكى وقتئذ، والذى كان يقود المفاوضات السرية لإنهاء هذه الحرب إلى أن يصف الفيتناميين الشماليين، بأنهم أصعب شعب يمكن التفاوض معه.
مع إعلان توقيع اتفاق إنهاء الحرب، كان من الطبيعى أن تبحث أطرافها حسابات الخسائر والمكاسب، وتذكر «الأهرام 25 يناير 1973»، أن وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» أذاعت كشفا بحساب خسائر وتكاليف هذه الحرب خلال 12 سنة (1961 - 1973) تأكد منه أنها تعتبر أكبر الحروب تدميرا فى التاريخ كله، وتعتبر بشراستها وخسائرها فى الأرواح واحدة من أكبر الكوارث التى شهدتها الإنسانية، فقد تسببت فى مصرع أكثر من مليون و147 ألفا و944 شخصا، بينهم 45 ألفا و928 من القوات الأمريكية، و180 ألفا و676 من قوات فيتنام الجنوبية، و921 ألفا و250 من قوات الثوار، وكلفت الخزانة الأمريكية ما يقرب من 137 مليار دولار، وبلغ وزن القنابل والمتفجرات التى ألقتها الطائرات الأمريكية على قواعد الثوار وأراضى فيتنام الشمالية سبعة ملايين و100 ألف طن».
فى يناير 1975 شن الشماليون هجوما كاسحا على الجنوب الذى تساقطت مدنه واحدة بعد الأخرى وفى 30 إبريل سقطت «سايجون»، وتغيير اسمها إلى «هوشى منه».